أعظم وأصدق ما قيل في حق سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم من التعظيم والتبجيل هو قول الله تعالى الحق : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما أي إن ذكر الله لنبيه بالصلاة عليه إنما هي صفة أزلية أبدية له سبحانه ، فقال : ( يصلون ) وجاء بالفعل المضارع المستمر أي إنه صلى وما زال يصلي وسيبقى يصلي ، وصلاته عليه إنما هي تعظيم واحترام ، فحق لمن قال أن يقول : إن الله أمرنا أمراً بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكة قدسه وثلث بالمؤمنين من عالمي جنه وإنسه ، فقال قولا كريماً ، تعظيماً لقدر نبينا وتفخيماً ، وتفهيماً لنا وتعليما ، فيريد من تعبيره أن يفهمنا ؛ أن من صفات الله تعالى الصلاة على نبيه ، ونبيه هو رحمته المهداة للعالمين قال تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وقال الحبيب المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم : إنما بعثت رحمة مهداة ، فتعظيمه لرحمته هو حتى لا يسعها شيء حيث قال تعالى : ورحمتي وسعت كل شيء ليرحم بها العالمين من خلقه ، وبما أن الصلاة على نبيه صفة له ، فمن باب أولى أن تكون صفة للملائكة الذين هم أقرب للحق تعالى ، فيلهمون التسبيح ، وتسبيحهم هو الصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، مشاركة منهم لأمره تعالى واتصافاً منهم بصفته عز وجل ، وكانت صلاتهم استغفاراً لمن يصلي على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حيث ورد في الحديث الصحيح : من صلى علي ، صلت عليه الملائكة ما صلى علي ، فليقلل عند ذلك أو ليكثر ، وأيضاً من شأن الملائكة التأمين على دعاء العبد بظهر الغيب الذي هو الصلاة على النبي وكما روي أيضاً في الحديث : ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك ولك بمثل ، فلذا كانت الصلاة على النبي مستجابة وقبولها حتم من الله تبارك وتعالى .
وحقيقة هذا الدعاء هو أن المسلم يدعو لنفسه ، فلا يظن أن دعاءه يزيد في أجر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، فمثله كمثل السحابة التي تمطر فوق البحر ، فلا هي زادت في البحر شيئاً ولا نقص من البحر شيء عندما تكونت هي من مائه أصلا . وتقديم خبر ( أن الله وملائكته يصلون على النبي ) ليعلم قدر المصلى والمصلى عليه إذ إن المصلي هو رب العزة وملائكته والمصلى عليه هو سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، فمن باب أولى أن المؤمنين بالله إيماناً حقيقياً يتصفون بهذه الصفة التي أطلقها الله سبحانه على نفسه وعلى ملائكته ، فجعلها علامة للمؤمنين وميزاناً يدل على نقص إيمانهم من زيادته .
أما كون اسمه ذكراً فلقد دلت الآيات الأربعة في القرآن الكريم على أن اسم سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ذكر للعالمين ، فقال في ثلاث آيات : إن هو إلا ذكر للعالمين وقال في الرابعة : وما هو إلا ذكر للعالمين حيث لما أراد أن يبرئه من قول المشركين والكفار حين اتهموه بالجنون ، فبرئه الله تعالى وقال : وما هو إلا ذكر للعالمين ، ولا يوهمنك من يقول أن المقصود بالذكر هنا إنما هو القرآن ؛ لأن في ضمير ( هو ) إيهام وإبهام وإشارة وإعلام فالقرآن والنبي مشتركان في لفظة الذكر، فاذا كان القران الكريم هدية الله الى حبيبه المصطفى صلى الله تعالى عليه وسسلم فكيف بمنزلة المهدى اليه؟ ، وإنه معلم القرآن إذ لو كان عندك كتاب ولم يكن لديك معلم فإنك لا تفهم ، كما لو كان عندك معلم ولم يكن لديك كتاب ففيه الكفاية والغنى ، من خلال أقواله وأفعاله وأحواله ، وهذا ما هو حاصل في كل زمان ، إذ لا يخلو زمان من وارث محمدي يقتدى ويتأسى به يجدد الله به أمر هذا الدين المتين ، كما ورد في الخبر الصحيح في سنن أبي داود : إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها . وأما التسبيح باسم سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، فقد قال الله تعالى في سورة الفتح : لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا ، فالهاء في تعزروه وتوقروه وتسبحوه اختلف في مرادها المفسرون ، فمنهم من قال : إن الضمائر الثلاثة كلها تعود لله ، حتى أن منهم من قال : ومن فرق في الضمائر فقد أبعد ومنهم من قال : إن الضميرين الأولين للرسول والثالث في تسبحوه عائد لله ، ولم يستطع أحد منهم القول : بأن الله تعالى لما أضاف إليه رسوله جمع الضمائر كلها ووحدها في اثنين ليعلم المسلم أنه إذا آمن بالرسول فقد آمن بالله وعندها فيتحتم عليه أن يعظم غاية التعظيم ويحترم غاية الاحترام ويساند وينزه هذا النبي الكريم الرؤوف الرحيم من كل نقيصة تثلم كماله في الاعتقاد ظاهراً وباطناً جسداً وروحاً مداوماً على ذلك إلى الموت مستغرقاً بهذا الإيمان جميع أوقاته فقال : ( بكرة وأصيلا ) وما العجب في تسبيح الرسول ؟ وقد قالوا السبحة هي الصلاة أولسنا نصلي على نبينا خمس مرات في الصلاة ، فيا عجباً ممن يغمط قدر نبيه ، وإن الله جل في علاه قد ضم اسم حبيبه ونبيه إلى اسمه فلا تلج الإسلام إلا بنطقك اسم محمد ، ولا تلج الإيمان إلا بنطقك واعتقادك باسم محمد ، ولا تقيم أي عبادة لله من الوضوء إلى أكبر عبادة إلا بذكرك لاسمه الشريف ، فما بال المتقولين على الله يفهمون الناس ما لا يراد منهم ؟ .
روي أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه سمع بعد انتقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رجلا يبكي ويقول : بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد كان جذع تخطب الناس عليه فلما كثر الناس اتخذت منبراً لتسمعهم فحن الجذع لفراقك حتى جعلت يدك عليه فسكن فأمتك كانت أولى بالحنين إليك لما فارقتهم ، بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد بلغ من فضيلتك عنده أن جعل طاعتك طاعته فقال عز وجل من يطع الرسول فقد أطاع الله بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد بلغ من فضيلتك عنده أن بعثك آخر الأنبياء وذكرك في أولهم فقال عز وجل وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد بلغ من فضيلتك عنده أن أهل النار يودون أن يكونوا قد أطاعوك وهم بين أطباقها يعذبون يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا ، بأبي أنت وأمي يا رسول الله لئن كان موسى بن عمران أعطاه الله حجراً تتفجر منه الأنهار فماذا بأعجب من أصابعك حين نبع منها الماء صلى الله عليك ، بأبي أنت وأمي يا رسول الله لئن كان سليمان بن داود أعطاه الله الريح غدوها شهر ورواحها شهر فماذا بأعجب من البراق حين سريت عليه إلى السماء السابعة ثم صليت الصبح من ليلتك بالأبطح صلى الله عليك ، بأبي أنت وأمي يا رسول الله لئن كان عيسى بن مريم أعطاه الله إحياء الموتى فماذا بأعجب من الشاة المسمومة حين كلمتك وهي مشوية فقالت لك الذراع : لا تأكلني فإني مسمومة ، بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد دعا نوح على قومه فقال رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ولو دعوت علينا بمثلها لهلكنا فلقد وطىء ظهرك وأدمى وجهك وكسرت رباعيتك فأبيت أن تقول إلا خيراً فقلت اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ، بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد اتبعك في قلة سنك وقصر عمرك ما لم يتبع نوحاً في كثرة سنه وطول عمره وآمن بك الكثير وما آمن معه إلا القليل ، بأبي أنت وأمي يا رسول الله لو لم تجالس إلا كفؤاً لك ما جالستنا ولو لم تنكح إلا كفؤأ لك ما نكحت إلينا ولو لم تؤاكل إلا كفؤاً لك ما واكلتنا فلقد والله جالستنا ونكحت إلينا وواكلتنا ولبست الصوف وركبت الحمار وأردفت خلفك ووضعت طعامك على الأرض ولعقت أصابعك تواضعاً منك صلى الله عليك وسلم .