شكرا اخي جعفر الاصمعي بارك الله فيك وجعل مقامك الجنه
الحقُ المبينُ :
جل جلالهُ
يقول تعالى {فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ }يونس32 {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ }الحجر85{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً }طه114 {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ }النور25
{مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ }الأحزاب4.
فهو -تعالى - الحق ويقول الحق ويهدي للحق ويفعل الحق , فهو حق في ذاته وصفاته وأفعاله .
فالحق هو الوجود الظاهر البيِّن الذي لا وجود للباطل معه لا في الذات ولا في الصفات ولا في الفعل .
فوجود الله تعالي لم يسبقه عدم لأن العدم باطل والله- تعالى - هو الأول ليس قبله شيء, ووجوده - تعالى – لا ينتهي , فهو الآخر ليس بعده شيء فهو تعالى الوجود المطلق فالوجود الحقيقى هو لله - تعالى - , وكل من كان وجوده بغيره فوجوده باطل لأنـه لا يملـك حقيقة الوجود فبقائه بالله الباقي الدائم الحي الذي لا يموت فهذه هي صفات الحق المبين لأن الحق لا يتغير من حال إلى حال فهو ثابت والحق ثابت بذاته لا بغيره وبهذا المعني يفهم القول بأنَّ كلَّ ما خلا الله باطل وليس المُراد بأنَّ الكون وَهمٌ وخيـالٌ , وبهذا المعني يُفهم القول بأن لا وجود إلا الله - تعالى - , وليس بالمعني الذي قد يفهم خطئاً من هذه العبارة التوحيدية للحق - تعالى - بأن الخلق قد اتحد مع الحق فالله - تعالى - فوق القـوانين والأسـباب , والإنسـان يخطئ ويقيس الأمـور بقـوانين الإدراك العقلي المحدود , فالعقل المحدود بقوانين الصورة المادية والخيالية لا يمكنه أن يدرك ما فوق الأشياء نهائياً , فقوانيننا تشمل البعيد والقريب في الزمان والمكان , وتشمل الأكبر والأصغر في الزمان والمكان وتعجز العقولُ عن تصور شيء خارج الزمـان والمكـان لأنـه , لا تصور هناك فالزمان والمكان شرطان من شروط وجود الأشياء , وهناك فرق بين الحيز المكاني وبين الوجود المكاني , فمن كان له حيز أمكانيا فهو من العوالم الثلاثية الأبعاد ( طول وعرض وارتفاع ) أما الموجود المكاني فليس مشروطا بالأبعاد فالموجودات اللابعدية هي أيضا موجودات مكانية ولكن لا تشغل حيزاً .
ملاحظات حول مفهوم وحدة الوجود :
كلمة وحدة الوجود أثارت تساؤلات كثيرةً , ونحن سنشرح الوضع من جهتين الأولى جهة العقل , والثانية جهة النفس
أولا : الإدراك العقلي
لقد قلنا بأن الوجود الحق الذي لا وجود معه هو الله - تعالى - وهو الحق المبين , والعجز عن إدراك هذه الحقيقة سبب الفهم الخاطئ لها , بسبب أن العقل الذي لا يحترم نفسه يستكبر عن الإذعان لحقيقة أخرى وهي ,,, العجز عـن الإدراك هو نهاية الحدود العقلية الممكنة للمخلوقات كافة , فهو تعالى لا تدركهُ الأبصار ويدرك الأبصار ,,, فهو فوق الزمان وفوق الآن الزمان والكيف فلا تستطيع في حضرة الحق أن تقول أين أو كيف , وإذا ما حاول العقل البشري المحدود أن يدرك حقيقة الكون توصل إلى المحدود , فالكون محدود الأبعاد المكانية والزمانيـة فليس قبل الزمان زمان , ولا قبل المكان مكان والكون حادث داخل المكان المحدود بحدود الأبعاد , وتصور وجود مكان لا متناهي الأطراف علي طريقة "" اسحق نيوتن"" ومن نحا نحوه هو مستحيل فكما أنه يستحيل تصور عصاً بدون أطراف فكذلك يستحيل تصور الأبعاد المكانية بـدون أطراف أو تصور الشمس بلا حدود , فلابد من المكان المحدود , وليس بعد المكان مكان أو مخلوق , وخيال الإنسان القاصر يعجز عن تصور هذه الحقيقة , والمادية الماركسية المنهزمة أثبت وجود الكون وقالت بأن الكون لا محدود ولا متناه كمن يقول المجنون بأن الشمس بلا محيط وبلا أقطار , وهو قول سخيف ظاهر الاستحالة , فالكون ليس فوقه أي وجود ذاتي مكاني ولا تحته ولا أمامه ولا خلفه بل الفوق والتحت داخله لأن الفوق والتحت نسبي إلى الإدراك الإنساني المركب
بقول تعالى { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ } الرحمن33
هل الكون يملأ حقيقةالوجود ?
فمن قال بأن الكون يملأ حقيقة الوجود فقد كفر وهو لا يدري ونفي وجود الخالق قطعا , أما الوجود الحق فهو لله تعالي فهو الأول ليس قبله شيء وهو الآخر ليس بعده شيء وهو الظاهر ليس فوقه شيء وهو الباطن ليس تحته شيء , فلا مجال لوجود حقيقة غـير الحقيقـة الإلهية (" قل هو اللهُ أحد ") , فقد ثبت بالدليل العقلي بأن الكون لا يمتلك حقيقة الوجود بذاته , وهنا يسأل العقل أين الكون ? فمن احترم عقله أدرك بأنه لا أين على الإطلاق لأن الوجود الحق هو الله - تعالى - وهو منزه عن المكان والزمان , فكلمة أين ؟ ,, تحتاج إلى نظـام إسناد أو بمعنى آخر إلى نقطة ثابتة يكون المكان منسوباً إليها , فبالنسبة لمن يكون المكان ? فان تعدى العقل حدود الأدب ونسب الجهه مع البعد الزماني إلى الخالق فقد ضل لأن الخالق جل وعلا ليس بجهة معينة لكي يُسند إلى نقطة إدراك على هذه الجهة ,
وقوله - تعالى - (" فأينما تولوا فثمَ وجه الله ") هو إشارة إلى تجليات الصفات التي وسعت كل شيء , و لم تعني بأن الإنسان هو نظام إسناد ثابت لأن الذي يفهم الآية بالمفهوم المكاني فقد جعل من نفسة نقطة إسناد وحيدة للإدراك وكفر بذلك وهو لا يدري لأنه سيضطر لأن يحكم بالجهة على خالقه - عز وجل , فهو تعالى الظاهر الحق في الوجود ليس فوقه شيء , وهذا نفي لمفهوم الفوق المكاني لأنـه خاضع لقانون مكاني يعني المعية في الوجود والمشاركة ,
فمن حاول تخيل هذه الحقيقة اضطر بجهله إلى أن يتصور الكون متحداً مع الله تعالى وإذا فرَّ من هذا التصور وقع في فخ تصور الكون من نقطة إسناد مكانية إلى العقل البشرى , فعدم إدراك نُظم الإسناد يـؤدي إلى الجـهل والخلط في فهم القوانين الكونية , أما الصواب فلا اتحاد, والكون مخلوق حادث , ولا يمتلك حقيقة الوجود بنفسه والله تعالى هو خالق كل شيء وهو بكل شيء عليم , فهو تعالي اسند علمًَ كل شيء إليه , وهو تعالي المرجع الوحيد لكل إسناد وعلية لا يمكننـا إسـناد إدراك الكـون إلى علمنا القاصر المحدود وهذه هي حقيقة العقل البشرى , ولإ جل ذلك كنا محتاجين غالى الرسل والكتب السماوية لكي نعلم حقيقة ما نجهل .
ماذا نعني بنقاط الأسناد ؟؟؟
كلمة فوق بالنسبة لنا نحن البشر ما علا رأسنا فنرى الطائرة فوقنا والغمام فوقنا والأرض اسفل ارجلنا , وهناك موجودات عن جهة اليد اليمنى وهناك موجودات على جهة اليد اليسرى ,
حينما نقول الطائرة فوقنا فهذا بالنسبة للرأس , فالرأس هي نقطة الإسناد للقياس المكاني , والعين هي نقطة استاد الرؤيا في المكان , العيون ترى القمر فوقنا والذي على سطح القمر سيرانا فوقه لن نقاط الإسناد المكاني هي الرأس ,
يقول تعالى { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } الكهف86.
أي ان العين ترى ان الشمس تغرب في الماء عند الغروب أي ان العين ترى الشمس تنزل في ماء البحر , وهذا مشهد مألوف لسكان المناطق البحرية .
العيون ترى الشمس فوقنا ونراها تسير فوقنا هذا هو واقع نقطة استاد العين , فالعيون ترى الواقع ولم ترى الحقيقة العقلية بان الأرض هي التي تدور حول الشمس وليس العكس كما ترى العين ذلك ,
ففي الفضاء الخارجي ليس هناك فوق أو تحت ا وجهه , بل حسب نقاط الإسناد .
يقول تعالى { وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً } الكهف17 فخاطبنا الله حسب الواقع المشهود ولم يخاطبنا حسب الحقيقة الغير مرئية بل حسب نقطة استاد العين , {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْراً }الكهف90 , {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }الأنبياء33
ثانياً : الإدراك القلبي :-
هو كل علم أو إدراك يتولد بسببه حال أو ذوق أو شعور , فالحال الناتج عن الحقائق السابقة هو أن تمر بالإنسان في حالاته السلوكية الإيمانية حالة يشعر فيها بأن لا وجود الا الله تعالى وهي حالة ذوقية توقع الإنسان فـي الضـلال إذا لم يكن مدركا لما قلناه سابقا فالأحوال تتبع العلوم والإدراك وليس العكس , ففي هذه الحالة قد لا يشعر الإنسان بوجود نفسه أو حتى إدراكه ووعيه وهذا ما يسمى بمصطلح القوم بالفناء , وهو التمثل ذوقاً بحقيقة أن لا وجود ألا الله على المعني الـذي شـرحناه سابقاً وهو يفهم بمثال النسوة اللاتي قطعنَّ أيديهُنَّ بسبب استغراق الصورة الجمالية ليوسف عليه السلام بمركز الإدراك وهامش الإدراك ,,,أي كل الإدراك ,,,فلم يشعرنَّ بتقطيعِ أيديهنَّ ,فهذا فناء عن المُدركات لاستغراق الإدراك بصورة وحيدة هي صورة يوسـف - عليه السلام - ويجب أن يُفهم مفهوم الفناء عند الصوفية بهذا المعني , أما بعد الصحو من ذلك الحال فلا يجوز أن يُفهم على أنه حقيقة اتحادية بين الخالق والمخلوق .
الفرق بين مفهوم الحق والحقيقة
الحقيقة : هي الأمر على ما هو عليه منفصلاً عن أي وصف خارجي
الحق : هو الوجود أو الوصف أو القول أو الفعل المطابق لتلك الحقيقة
الباطل : هو عدم مطابقة الوجود أو الوصف أو القول للحقيقة المجردة عن الوصف الخارجي
شرح بعض الآيات المبينة لما قلناه يقول المولى { قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ }الأنعام57
فما أخبرنا به المولى من قصص السابقين مطابق تماما لما جري وجوداً وفعلاً ووصفاً في الزمان والمكان , وهذا الإخبار هو الإخبار المُطلق لأنه إخبار ممن أحاط بكـلًِ شيء علماً فيكون قولهُ - تعالى - هو الحق المُطلق , وكل ما عداه لا يحيط علماً بالأشياء فقوله ناقص غير مطابق للحقيقة إلا من تجلى الله الحق المبين علية بنور الحق الواضح فيكون قوله حقاً مطابقاً للحقيقة فهو "" لا ينطق عن الهـوى " ولقـد نـال المصطفـى - عليـه الصلاة والسلام - هذا الحظ الأوفر من هذا التجلي العظيم الذي هو أساس لكل صدق وإخلاص , ويقول تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ }البقرة26,
فهو وصف حق للحقيقة التي أدركتها أرواحهم الظاهرة الزكية , لأن الطهارة هي حـفظ إلهـي لسر الروح في عالم الأمر عن رؤية غيره وإن سُدت أمامها نوافذ الطهارة مؤقتاً في عالم الشهادة بحكم القدر , فخالد بن الوليد كان في علم الله مؤمناً وقد سبقت له الحسنى وما صدر عنه في عالم الشهادة من كفر غير مطابق لحقيقة السر الإيماني في روحـه المحفوظـة الطاهرة , ويقول - تعالي - {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ }البقرة42 والتلبيس هو من اللباس لأن اللباس ستر فإذا ما ألبسَ المُبطل عقلَ الإنسان المُتلبس ثوباً براقاً من عالم الأسباب فيرى المخدوع الحقَ باطلاً وهذه هي أخطر عمليات التلبس وهي أخطر مـن عمليـة التلبس الشيطاني ذاته لجسم الإنسان , {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ }البقرة119 فالقرآن هو المخبر عن الحقائق كلُها إخباراً صادقاً من العليم الخبير , فلذلك سُميَّ القرآنُ حقاً , فلكلِّ حقٍ حقيقةٌ وكل ما ليس له حقيقة يدلُ عليها فليس بحـق بـل هـو البـاطل ,
وهناك أمر قد يلتبس على البعض مثال :الكذب فقالوا هو حقيقة ولكنه ليس حقاً فخرجوا بقانون مباشر فقالوا " ليست كلُّ حقيقةٍ حقاً " ونقول واللهُ المستعان بأن هذا اللبس سببه عدم فهم نظام الإسناد , فنقول هل الكذب موجود كواقع إنساني موضوعي , فالجواب نعـم .
, فالكذب حقيقة موجودة صادرة عن الإنسان فوجودها حق , فهي من حيث الوجود تكون حقاً , وإذا ما سئلنا هل الكذب من جهة الأمر الشرعي حلالٌ أم حرامٌ ?. كان الجواب بأنه حرام وهذا الجواب يسمى حقاً لأنه وافق الحقيقة الشرعية التي حرمته , ومـن قـال بـأن الكـذب حلال قلنا بأن كلامك باطلٌ لأنه لم يطابق الحقيقة الشرعية التي حرمته , فكلمة حق هي بالنسبة للأمر والنهي وليست بالنسبة لصفة الوجود , فإذا قال أحد بأن الكذب باطل كان معني كلامه بأنه لا يجوز , ولا يُفهم كلامه بأن الكذب غير موجود بين الناس , فالحق مطابق للحقيقة دوما , وليس في الوجود حقيقة بدون حق يعبر عنها ويطابقها . يقول الحق - تبارك وتعالى {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }الحج74 لأنه لا يدرك الحقيقة الإلهية سواه - جل وعلا - وهذه إشارة إلى مقام التسبيح والحمد (" فذلكم اللهُ ربكم الحق ") فهـو الحق المُطلق والآية تنفي الباطل ,ومن كان وجوده باللهِ الحقًِ فوجوده حقًٌ لأنه مدرك لوجوده ولخالقه , فوجوده حق لأن الله خلقه وأوجده في أحسن تقويم , فهو حقٌ بالحق - جل وعلا - ولولا الملك الحق لما اكتسب صفة الوجود أصلاً, فهو باطل من جهة نفسـه لأنـه لا يملك نفعاً ولا ضراً , وهو حق من جهة خالقه لأنه أوجده وأنعم عليه بصفة الوجود (" فماذا بعد الحقِّ إلا الضلال ") فهذا هو الحكم على أهل الجمع والتفرقة بمصطلح القوم .وأنا ممن لا يحبذ استخدام لفظة "" جمعٌ على الله "" فلو قالوا جمعٌ باللهِ لكـان أهـون وأقرب لحقيقة الحال القلبي المُعبر عنه بتلك اللفظة,
الفرق بين مفهوم الشريعة والحقيقة
لقد درج أقوام على تداول لفظي كل من الشريعة والحقيقة , فيقولون إولئك من أهل الحقيقة وأولئك من أهل الشريعة يريدون أهل الظاهر وأهل الباطن , وهذه فيها نظر , وإذا ماحددنا نظام الإسناد سلفاً استطعنا أن نحدد الصواب أو الخطأ في التفريق بيـن الشـريعة والحقيقة والقول الفصل في هذا هو قوله تعالى ("" انا أرسلناك بالحق "") ("" والذي أنُزل إليك من ربك الحق "") ("" هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق "") فالقران هو الحق المطلق لأنه كلام الله - تعالى - فهو حق لأنه يدل على الحقيقة ,, حينمـا أقـول هـذا قرآن , فقولى هو إخبار صادق لأنه وافق الحقيقة , فقولي حق , وحينما يخبرنا اللهُ في القرآن بأنه هو الله الواحد الأحد الخالق الحي القيوم فهذا الكلام حق لأنه مطابق للحقيقة , وحينما يأمرننا القرآن بأن للذَكرِ مثلُ حظ الأنثيين , فأنه حكم حق لأنـه مـوافق لحقيقة الأمر الذي استوجب هذا الحكم .
نحن هنا أمام عدة تفسيرات
1 - أما أن نعتبر أحكام الزواج والميراث والطلاق وأمثالها هي الشريعة وأن الآيات التي توصف الله وصفاته وفعله هي الحقيقة وهذا ما تعبر عنه ألفاظ المُمييزين بين الشريعة والحقيقة , وهو خطأ فادح لأنه تقسيم للقرآن وفـق مصطلـح البشر بيد أن العكس يجب ان يكون هو أن تتبع البشر تقسيمات وأحكام القرآن , فكما قلنا إن الأحكام الشرعية تدل على الحقيقة وكذلك آيات الصفات تدل على الحقيقة لأنها وصف صادق للصفات الإلهية فكل حق حقيقة ومادامت الشريعة حقاً فهي حُكم الحقيقـة وعليـة فليسـت الشريعة شيء مغاير بل هي معبر ووصف للحقيقة .
2- إذا ما أسندنا الأمر إلى وسائل الإدراك فكل ما ظهر للإدراك فهو ظاهر وما خفي عنه فهو باطن , ولا يجوز أن نسمي ما ظهر للإدراك بالشريعة وما خفي عنه بالحقيقة .
3- إذا ما أسندنا الأمر إلى الألفاظ اللغوية فإن من الألفاظ مالا يمكن حمله على ظاهره لأنه" أي الظاهر "يتعارض مع الحقيقة فلابد من التأويل وهو الفقه الذي يتجاوز الألفاظ القاصرة التي قد تتعارض مع الحقيقة فيتجاوزها أولو الألباب إلى الحقيقة فيدركون الحقيقة فيكون تأويلهم حقاً وهم من أهل الحق أو شئت أهل الحقيقة لأنهم عبروا بفضل الله - تعالى - إلى لب الأمور فسماهم الله أولي الألباب فبهذا المعني يجوز أن نسميهم أهل الحقيقة و لا نسمي الذين وقفوا عنـد اللفـظ القـاصر بـأنهم أهـل شريعة لأن الشريعة لا تنفصل عن الحقيقة فالذين عَبَروا فبالشريعة عَبَروا , فهم أهل الشريعة أيضاً وبحق , ومثال ذلك قوله - تعالى - (" الرحمن على العرش استوى ") فمن وقف مع اللفظ متجاوزاً حقيقة أن العرش مخلوق ومحمول بقـدرة اللـه وأن الاستواء الـذاتي محال , فقد هوت به سُفن الجهل في بحورها الواسعة , أما أولو الألباب فقد تجاوزوا اللفظ إلى الحقيقة فأدركوا أن الاستواء هو تجلي الخالق على الأكوان بالرحمة وأن الاستواء هو شمول الرحمة لكل مخلوق , فإن سميت الذين وقفوا مع اللفظ بأهل الظاهر فهذا الوصف حق لأن أهل الظاهر وقفوا مع اللفظ ولم يقفوا مع الحقيقة الخالدة , ولا نُسمي الذين وقفوا مع اللفظ بأهل الشريعة لأنهم عن الشريعة بعيدون لأنهم نسبوا إلى الله مالا يليق بمقامه بوقوفهم مع اللفظ وليس مع الحقيقة الدال عليها اللفظ .
الفرق بين الحق والاجتهاد الفقهي
* إن الاختلاف في الفهم للأمور هو حقيقة بشرية لا يمكن تجاوزها فهذه هي حقيقة البشر فهم عاجزون عن إدراك الحقيقة على كمالها وهذا هو أساس الاجتهاد الفقهي .
* إن الفهم الصحيح لحقيقة ما هو ما يسمى بالحق والفهم المخالف لهذه الحقيقة لا يكون حقاً لأنه لا يطابق الحقيقة الموجودة .
* إن إدراك حقيقة المُراد الإلهي في خطابه لنا في القرآن هو أمر محدود وقاصر لأن المُراد الإلهي شامل ومطلق والعقل الإنساني قاصر .
* جاء في الصحيحين أن النبي - عليه الصلاة والسلام - لما رجع من الخندق ووضع السلاح واغتسل , أتاه جبريل عليه الصلاة والسلام , فقال قد وضعت السلاح ? واللهِ ما وضعناه , فاخرج إليهم قال : فإلى أين ? قال ههنا وأشار إلى بني قريظة , فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم ونادى في المسلمين ألا لا يصلينَ أحد العصر إلا في بني قريظة , فسار الناس , فأدرك بعضهم العصر في الطريق , فقال بعضهم : لا نصلي حتي نأتيها , وقال بعضهم : بل نصلي , ولم يرد منا ذلك فرووا ذلك للنبي - عليـه الصـلاة والسـلام - فلـم يُعنف واحدا منا . فقول الرسول - عليه الصلاة والسلام لهم - لم يتبينوا من خلاله دلالات الحقيقة المعبرة عن مراد الرسول - علية الصلاة والسلام - ومراد الرسول - عليه الصلاة والسلام واحد فهو أما أراد عدم صلاة العصر إلا هناك في المكان فيكـون الـذين صلـوا مكانياً في بني قريظة قد وافقوا الحقيقة فهم على الحق قطعا , وأما أن يكون قد أراد منهم أن يسرعوا ويحاولوا أن يصلوا هناك زمانياً لصلاة العصر مكانياً فالهدف هو محاولة الوصول وهنا نقطة توضيحية وهي "" إذا كانت المسافة كافية لأن يدرك المسلمون صلاة العصر هناك فقطعاً يعلم الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك الأمر , وإن كانت المسافة غير كافية حتى مع الإسراع لإدراك صلاة العصر هناك فلا معني حينئذ للأمر بادراك الصلاة هناك , فإدراك الصلاة ممكن مع الإسراع ومن توهم عدم الإمكان فصلى قبـل الوصـول , أمـا مراد الرسول فهو واحد من الحالتين , وعدم وضوح المُراد أدى إلى الخلاف وهذا هو حقيقة الاجتهاد فمن كان اجتهاده موافقا للمراد فهو الحق ومن خالف المراد فقد أخطأ وله أجر واحد لأنه حاول إدراك الحقيقة ولم يوفق بسبب عـدم توفـر الأدلـة القطعيـة بالنسـبة للمجـتهد ولا نقول بأنه وافق الحقيقة