« ما
معنى هذا الوجود الذي يرون وحدته ؟ يجيبنا أنصار التوحيد الوجودي بما يلي :
إن فكرة الوجود ينبغي أن تلحظ من جانبين ، وبالتالي أن تفهم على معنيين متميزين ،
فيجب أن نلاحظ الوجود أولا من حيث مظاهره الخارجية ، وثانياً من حيث هو في حقيقته
الذاتية .
ففي الاعتبار الأول : الوجود هو بمعنى الإيجاد ، أي : هو الفعل المبدع الخلاق الذي
تتحق به الموجودات كلها في صورها الوجودية … فكل ما في العوالم من كائنات منظورة
وغير منظورة ، هي مظهر لهذا الوجود ( الإيجاد ) الواحد وأثر من آثاره … إنه واحد
وهي متعددة ، قديم وهي حادثة … فوحدة الوجود على هذا المعنى الخاص : هي وحدة إيجاد
فحسب ، ومن ثم لا تعارضها كثرة الموجودات الحادثة ولا تنفيها بل تثبتها وتبقيها …
أما الوجود على الاعتبار الثاني ... نستطيع أن نتصور ثلاثة أنماط من الوجود :
- وجود بشرط شيء ، وهو الوجود الجزئي المقيد بحدود الزمان والمكان والمادة .
- وجود بشرط لا شيء ، وهو معارض للأول ، وهذا هو الوجود الكلي الذي هو مطلق
بالقياس إلى الجزئي فقط .
– وجود لا بشرط شيء ، وهو المطلق الذي هو غير مقيد بالإطلاق كالكلي كما هو مطلق عن
التقييد وفي التقييد كالجزئي – وبدهي أن النمط الثالث من الوجود هو الذي يجب
إسناده إلى ذات الحق تعالى ويصح حمله عليها .
فوحدة الوجود في هذا الموطن : هي وحدة المطلق الذي هو وجود بذاته ومن ذاته لذاته ،
ولا يعقل بتاتا تصور ثنائية أو كثرة في صعيد الوجود المطلق ، إذ الكثرة ثمة مظهر
شنيع من ( الشرك العقلي الخفي ) أشد قبحا وأسوأ عاقبة من ( الشرك الديني الجلي )
(1) .
ويقول الدكتور مارتن لنجز :
« إن أحكم الصيغ عن وحدة الوجود ، مع ما فيها من إيجاز واقتضاب لتوجد في القرآن
الكريم الذي تقول آية منه :
فَأَيْنَمَا
تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ
(2) . وتقول آية
أخرى
كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه
(3) . وأخرى
كُلُّ مَنْ
عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ
(4) ... وعقيدة وحدة
الوجود مشمولة ضمناً في اسم من أسماء الله الحسنى هو (
الحق ) ... إذ لا معنى لإثبات الحق ( الحقيقة ) كصفة أصلية من صفات الألوهية لو
كان ثمة شيء غير الله حقيقي . ولفظ ( الوجود ) يعبر عن هذه الحقيقة المطلقة ، إذ
أنه يشير إلى ما هو كائن ، كمغاير لما ليس بكائن ، وتقضي وحدة الوجود بالاعتقاد
بأن وراء القناع الموهوم المخلوقات يوجد الحق الإلهي الواحد – ذلك لا يعني أن الله
مكون من أجزاء ، ولكن معناه أن وراء كل جزء من أجزاء الكون المخلوق يبدو منفصلاً
تمكن كمالية الله الواحدة اللانهائية في كليته التي لا تتجزأ »(5)
ويقول الباحث عبد القدر أحمد عطا :
« يعتقد بعض الدارسين أن وحدة الوجود عند الصوفية هي وحدة الوجود عند الفلاسفة ،
والواقع غير ذلك . فوحدة الوجود عند الصوفية ، عبارة عن وحدة الأسماء والصفات
الإلهية . فمثلاً وحدة الخلق يفهمونها هكذا : كل ما في الكون خلق الله ، فهو مظهر
صفة الخلق ومجلاها الذي نستطيع أن نفهم صفة الخلق بها ، من حيث التدبر والتأمل ،
ونتدرج منها إلى أن نستشرف على عين صفة الخلق ذوقاً وشهوداً وإحساساً ، لا اتحاداً
ولا حلولاً ، وصفة الوجود الحق لله فحسب ، أما الموجودات الكونية فوجودها مستعار
من وجود الحق ، وكل ما كان وجوده مستعاراً فليس وجوده أصيلاً فهو موجود لا موجود ،
موجود وجوداً مستعاراً ، وليس موجوداً ، لأن الموجود الحق الذي يستمد وجوده من
ذاته هو الله فقط .
ثم تتجمع الأسماء والصفات الإلهية كلها في الاسم الجامع : وهو ( الله ) فصار
الوجود الكوني راجعاً إلى الأسماء والصفات ، وصارت الأسماء والصفات راجعة إلى
الاسم الجامع ، والاسم الجامع مغيب في غيب الذات التي لا يدركها مدرك على وجه
الكون كله . ولا ضرر مطلقاً في اعتقاد هذا المذهب بأي حال .
أما وحدة الوجود عند الفلاسفة ، فيقول فيها ( افلوطين ) أن الموجود المطلق لا يمكن
بأي حال أن يعيش وحده ولذلك يفيض من ذاته موجودات أخرى »(6) .
ويقول الباحث عزة حصرية :
« المقصود من وحدة الوجود في الأصل : أن يكون الإنسان بالنسبة للعبدية في درجة
الكمال ، وذلك على أساس أن لا تمحي أهواء النفس وأعراض الدنيا الزائلة عن نفس
العبد ... فحسب ، بل تغلب عليه تلك الحال إلى أن يغيب وجود الرجل نفسه ، ويغيب عن
وجود ذوات خلق الله تعالى بين يدي الحق سبحانه وتعالى نفسه ، فلا يرى ولا يشعر إلا
به ... فوحدة الوجود ووحدة الشهود والتفاني والقرب والوصال كل ذلك اصطلاحات التصوف
، له ما يرادفه ويسير معه جنبا إلى جنب في اصطلاح الشريعة وهو : العبدية