النسب الشريف لسيدنا الشيخ رضي الله عنه:
الأمر الأول الذي يُبدأ به ويبدأ الكلام به عند تناول حياة أي إنسان هو النسب من هو هذا الرجل؟ ما هو نسبه؟
لاشك أن كل من أرخ لمولانا الشيخ رضي الله عنه وتحدث على نسبه أثبت أنه شريف النسب حسني يتصل نسبه بالإمام محمد النفس الزكية أخِ المولى إدريس الأكبر الفاتح المؤسس لدولة المغرب.
ومولانا الشيخ رضي الله عنه كما تعلمون هو اشتهر بهذا اللقب الذي هو التجاني أو التدجيني نسبة إلى قبيلة تدجين أو تدجان الواقعة بالصحراء، لكن في الواقع والحقيقة أن هذا النسب إنما هو اشتهر وطغى على أحد أجداده الذي هو سيدي مَحمد بن سالم لأن الشيخ أحمد بن مَحمد بن أحمد بن مَحمد بن سالم، وهذا الجد الرابع سيدي محمد بن سالم كان تزوج امرأة من هذه القبيلة فولد معها ولده ولما توفي عنها حملت ولدها إلى قومها فتربى هناك فهم أخوله.
إلا أن نسبه هذا النسب الشريف كان أباؤه الأكرمون قبل هذا الزواج وهذه المصاهرة مع أهل تيجين كانوا يسكنون قبيلة عبدة بناحية آسفي التي هي معروفة من أنحاء المغرب وهذا موجود مصرح به مكتوب في الوثائق وصرح به أحد كبار المحققين في هذه الطريقة وهو المقدم الكبير سيدي محمد بن القاسم البصري المكناس الذي كان يفرد بإطلاق بلقب المقدم عليه، وأخذ عنه هذا الأمر كثير من علماء الطريقة كسيدنا العربي بن السائح والفقيه أكنسوس وأضراب هؤلاء. فإذا هذا هو نسبه الطاهر الذي يتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومولانا الشيخ التجاني رضي الله عنه كان مولده في عام 1150 هـ، هذه القضية لا نطيل بذكر تفاصيل هذا المولد والإشارات التي سبقت هذا المولد.
طلبه للعلوم الشرعية والتصوف وتصدره للإفتاء: إلا أن هذا الشيخ الكبير رضي الله عنه تميز بتأهله لأخذ العلوم وللترقي في المقامات العالية منذ صغره حيث أننا ونحن نقرأ سيرة حياته نجد بادرة وبارقة جليلة عظيمة تلك أنه رضي الله عنه حفظ القرآن الكريم حفظا تاما متقنا وعمره سبعُ سنين هذه المسألة أجمع عليها كل من أرخ لهذا الشيخ، ثم أخذ في طلب العلوم فبرع فيها وهو بن 17 سنة، وكان يدرس ويفتي في هذا السن المبكر.
ثم لما بلغ رضي الله عنه من السنين 21 سنة ثاقت نفسه إلى سلوك طريق أهل التصوف بعد أن حصَّل العلوم الشرعية وبرع فيها وصار مفتيا، أراد أن يسلك طريق أهل الله فخرج من بلده طالبا الشيوخ الكبار العظام فكانت له رحلات يمكن أن نقسم هذه الرحلات إلى ثلاث رحلات رئيسية كبيرة:
الرحلة الأولى لطلب العلوم: هي التي كانت سنة 1176 هـ وكان عمره 26 سنة وكانت إلى المغرب فدخل فاس وأخذ في القرويين على شيوخ من أكابر العلماء ولقي عدة من الشيوخ في هذه الرحلة، وهذه الرحلة كانت ممزوجة بأخذه عن شيوخ العلم وشيوخ التصوف، أخذ العلم وأخذ القراءات وأخذ كذلك أيضا بعض طرق أهل الله ،وأجمع كل من ترجم لسيدنا الشيخ رضي الله عنه أن أول من لقيهم من الأقطاب الكبار وأخذ عنهم هو مولانا الطيب بنُ مولانا محمد بنِ مولانا عبد الله الشريف نزيل وزان، فكان أول الكبار من الأقطاب الأولياء العارفين الذين لقيهم سيدنا الشيخ رضي الله عنه في هذه الرحلة وأخذ عنهم، ولقي كثيرا من الأكابر كسيدي محمد الصقلي وسيدي أحمد الطواش التازي وأضراب هؤلاء الذين لقيهم في الرحلة الأولى 1176هـ - 1185هـ، وقعت لسيدنا الشيخ أمور كثيرة من ملاقاة العلماء والأخذ عنهم منها ستدل فيما بعد على رسوخ قدم هذا العارف بالله تعالى في السلوك والاستقامة والثبات والوفاء والإحسان وغير ذلك. وفاؤه وإحسانه: -قصة نحكيها وهي فيها دلالة- ذلك أنه لما سافر إلى المغرب سمع ببعض مشايخ القراءات في محل هنا بناحية الغرب بين بلقصيري وسوق الأربعاء فقصد هذا الشيخ لأخذ القراءات عنه، وفي طريقه إليه صادف حدوثُ مطر غزير فانقطعت السبلُ ولم يجد سليبا إلى إتمام سفره، فحل ضيفا على رجل هو سيدي محمد بن الشريف رجل من الناس جاء عنده في بيت وطلب منه الضيافة فاستضافه وبقي المطر مانعا له من السفر مدة عشرين يوما وبقي عنده في البيت عشرين يوما فلما رجع الشيخ وسافر إلى بلده وحج وطاف ورجع بعد عام 1213هـ واستوطن فاس وسمع هذا الرجل بخبره جاءه زائرا، فلما زاره أكرمه الشيخ وأضافه عنده أياما ولما أراد السفر أعطاه هدية عبارة عن مبلغ من المال معتبر، وقال له لا بد من الآن فصاعدا أن تاتيني في كل عام في مثل هذا الوقت لأعطيك نفس المبلغ فصار هذا الرجل يزوره كل عام ويجد ذلك المبلغ مهيئا يعطيه له بدون انقطاع إلى أن توفي الشيخ رضي الله عنه، فيها دلالة على هذا الوفاء وهذا التزام ومقابلة الإحسان بأضعاف أضعافه من الإحسان واعتراف بمن أحسن، هذه من جملة أمور حصلت لهذا الشيخ العظيم الكبير في هذه المرحلة من حياته.
الرحلة الثانية للحج: فلما أتم الشيخ رضي الله عنه هذه الرحلة بعد ملاقاته كثير الكبير العلماء رجع إلى بلده 1185هـ، بعد ذلك قصد إلى حج بيت الله الحرام وهذه هي الرحلة الثانية من رحلاته قصد فيها الحج إلى بيت الله الحرام، وكان له في هذه السفرة ملاقاة مع الشيوخ الكبار، لكن تميزت الرحلة بملاقاته لشيوخ السلوك والتربية أكثر من ملاقاته لشيوخ العلم لأنه في هذا الوقت كان قد استكمل تكونه العلمي فكان يرقب أهل الله تبارك وتعالى ويقصدهم ويقصد إلى ملاقاتهم فلقي في هذه الرحلة كثيرا من أكابر الشيوخ، أمثال الشيخ الكبير سيدي أحمد الهندي بمكة وأمثال القطب الكبير سيدي عبد الكبير السمان دفين البقيع لقيه بالمدينة المنورة، ولقي شيخه الكبير سيدي محمود الكردي بمصر في الذهاب وفي الإياب وعنه أخذ الطريقة الخلوتية التي كانت هي آخر طريق أخذها الشيخ رضي الله عنه بعد أخذه للقادرية والشاذلية وغيرها.
ثم رجع سيدنا الشيخ رضي الله عنه من حجه إلى بلده، ثم انقل إلى تلمسان، واستوطن مدينة تلمسان إلى عام 1196هـ، حيث انتقل منها إلى الصحراء في موضع يعرف بأبي سمغون، ثم من أبي سمغون دخل فاس.
مراحل حياة الشيخ رضي الله عنه: هنا لا بد لكل من يتكلم عن حياة الشيخ سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه أن يفرق في حياته بين مرحلتين:
- ما قبل 1196هـ: وهي مرحلة الطلب وسلوك طرق أهل الله وملاقاة الشيوخ والبحث عنهم.
- ومرحلة تأتي بعدها مرحلة ما بعد 1196هـ وهي مرحلة الاكتمال في الأخذ ومرحلة التفرد بطريقته المتفردة الجديدة، بحيث لا يمكن أن يقال لا من حيث المنهجية والموضوعية العلمية ولا من حيث القرائن والحجج والدلائل التاريخية ولا من حيث ما صرح به هو بنفسه رضي الله عنه، لا يمكن أن يقال أن طريقته فرع عن هذه الطرق التي أخذها قبل ذلك في طريق سلوكه أخذ طرق كثيرة، إلا أن طريقته هذه تفردت بأمور سنراها إن شاء الله تعالى في الكلمة التي تأتي في الكلام عن أسس الطريقة وشروطها. فهي طريقة متفردة بمنهج جديد في التربية وهناك نرى أن الشيخ سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه رغم أنه في هذه المرحلة الأولى كان يأخذ طرق أشياخ، وسلك على أيديهم لكنه دائما كان يعتذر عن شيء، فكلما أراد شيخ من هؤلاء الشيوخ أن يدخله خلوة أو يلبسه مرقعة أو كما يقولون ويعبر عنها الصوفية القدماء بالخرقة كان يعتذر عن ذلك فما دخل خلوة ولا سلك بها، ولذلك لم يسلك بها فلم تكن في طريقته خلوةٌ ولا عزلةٌ ولا انقطاعٌ عن الناس وإنما طريقته ذكر وشكر.
الطريقة التجانية إذا استعرضنا أسسها فهي طريقة الذكر وأداء الواجبات لأنه في الوصايا عدد كثير يؤكد على المحافظة على الصلوات الخمس في وقتها وأكل الحلال، ويؤكد على أمور في المعاملة هذا عدى أمور لأنه شرعي والطريقة مبنية على الشريعة وأيضا يحض على الذكر والإكثار منه مع شكر الله تعالى على نعمه دون تميز أو تفرد عن الناس أو ابتعاد عنهم أو اجتنابهم ولكن طريقته في مضمونها أن يعيش الإنسان مع الناس وقلبه مع الله. فكان أنه من جملة ما يشير هذا المعنى أنه كلما لقي شيخا من كبار من ذكرناهم كسيدي عبد الكريم السمان وأضرابه كانوا إذا أرادوا إدخاله الخلوةَ اعتذر يقول لا، ثم كل من لقنه طريقاً من الطرق يأذن له في تلقينها ويعتذر، إذا قال له أنا أجعلك خليفة عني أو مقدما تأذن في الطريقة يعتذر ويقول: "لا وإنما أنا الآن مشغول بنفسي ولا يمكنني أن أتصدر لإعطاء الناس".
بعد هذا الاكتمال الذي ذكرنا وبعد حصول الإذن له لأن قضية أهل الله تعالى من العارفين أنهم لا يفعلون شيئا إلا بإذن، والشيء إذا لم يكن فيه إذن لا يثمر ولا يتنج، فلذلك كل أمورهم أنتجت لأنهم كانوا لا يتصرفون إلا بإذن بواسطة أو بغير واسطة. فإذا لا بعد من تمييز في حياة الشيخ سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه بين مرحلتين: مرحلة ما قبل 1196 هـ، ومرحلة ما بعد 1196هـ، فاستوطن الشيخ رضي الله عنه أبا سمغون، ووقع له ما وقع من الفتح الكبير والإذن في تلقين الطريقة الخاصة بشروطها وأذكارها اللازمة وضوابطها، وبقي الشيخ رضي الله عنه هناك مترددا بين أبي سمغون وتلمسان وكان يدخل فاسا في بعض المرات ،وسافر إلى وجدة في الطريق إلى فاس ولقي خليفته سيدي الحاج حرازم، ودخلت طريقته فاس قبل أن يدخلها بحيث كان من أخذ عنه من أهل فاس وكان الشيخ رضي الله عنه يراسلهم وفي رسائله كثير من مراسلات والمكاتبات الموجهة إلى فقراء فاس، إلى أن كان عام 1213هـ حيث دخل الشيخ رضي الله عنه فاسا مستوطنا.
توضيح لابد منه لدخول الشيخ رضي الله عنه فاسا: وهنا بعض الناس وبعض المؤرخين جنحوا إلى القول بأن الشيخ رضي الله عنه دخل فاسا فاراً من مضايقات بعض الحكام الأتراك أو من بعض الجهات، والحق الذي تشير إليه كثير من الوثائق والذي هو موضوعي أيضا أنه رضي الله عنه دخل فاسا عن طيب خاطر وبإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه قبل أن يدخل فاس راسل السلطان العالم المصلح المجدد مولانا سليمان رضي الله عنه واستأذنه في أن يدخل فاسا فأذن له فدخلها وفي سكنى الشيخ رضي الله عنه فاسا أمور كثيرة يقصر عنها الاستقصاء والوصف والذكر.
منهج الشيخ سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه في التربية والتسليك: ولهذا الشيخ العظيم بهذا السلوك وهذه التربية والتعليم والاستكمال الرباني لشخصيته وللمواهب وللمعارف، مسألة في تربيته وتسليكه للناس عجيبة تتميز بشدة تواضعه وبتعظيمه لأصحابه، هذه مسألة لا بد أن نلتفت إليها ذلك أن الشيخ سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه كان شديد التواضع في كل سلوكه وكان يعظم أصحابه، التلاميذ الذين يأخذون عنه يعظمهم فإذا كان بعضهم شريف النسب لا يخاطبه إلا بلفظ السيادة يناديه سيدي فلان، بل إذا دخل عليه الشريف يقوم له لا يستقبله جالسا حتى صار أصحابه يعرفون الشريف من غير الشريف بهذه القضية، إذا دخل إنسان وقام له الشيخ رضي الله عنه يعرفون أن الداخل شريف النسب وإذا بقي جالسا يعرفون أنه غير شريف. ويخاطب العلماء منهم بتحليات، ويمنعهم من القيام بأعمال تنم عن تعظيم مصطنع أو صادق ولذلك كان ينهاهم عن تقبيل يده، مثلا هذه من الأمور التي كان يربيهم بها ويقول لهم إن "الأدب الحقيقي هو أدب القلب الباطن" وليست هي مسائل الطقوس وكذا... ولذلك مرة - هذا صاحبه الذي ذكرناه آنفا هو سيدي أحمد السفياني الودغيري - كان في مباسطة مع الشيخ رضي الله عنه، فلما رآى منه طلاقة خطف يده وقبلها، فغضب منه الشيخ رضي الله عنه وهذا موجود في كتب الطريقة منصوص، غضب وقال له والله لا أسامحك حتى تمكنني من يدك أقبلها. لأن هذا الرجل العظيم لم يكن يصنع المريدين الخانعين، وإنما ربى وكون رجالا فتحوا الأقطار وفتحوا القلوب والأعين ونشروا الاسلام في ربوع الأرض، فكان من تمام تربيته لهم تكونه لشخصياتهم ولعلمهم ولسلوكهم مع الناس، ولذلك نفع الله بهم ونشر الله تعالى الطريقة على أيديهم فانتفع بهم الخلق الكثير.
وكان هذا الشيخ إذا في مسار حياته وبعد استكمال هذا التكوين والإذن له في تلقين الطريقة وتلقينها ونشرها، كان إنسانا ربانيا محمديا كل الأمور التي كان يقولها أو يقوم بها ويفعلها إلا ولها أصل في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مقتفيا أثر الرسول صلى الله عليه وسلم حذو النعل بالنعل وكان يربي أصحابه بهمة عالية ويأمرهم برفع همتهم، وكان عنده ذلك بأساليب مختلفة بحيث حتى في أموره كان لا يلبس مثلا من الباس الظاهر إلا أجمل وأفخر الثياب ويربي أصحابه بذلك، فتجد أن أصحابه كانوا كثيري العناية بطهارتهم ونظافتهم وبمظهرهم وبشكلهم كما يعتنون بباطنهم وجوهر قلوبهم سواءً بسواء فرباهم تربية عظيمة جدا.
خاتمة: إذا هذه بعض الجوانب من حياة هذا الشيخ الجليل، فلا لا يمكن أن نحيط في كلمة أو حتى في كتب ومجلدات بدقائق حياة هذا الشيخ العظيم رضي الله عنه، ومسار دربه طويل، إلا أننا نسأل الله الكريم أن يعيد علينا من بوارق كرامات ونفحات هذا الشيخ الجليل رضي الله عنه ونحن نحيي في هذا اليوم تمام القرنين على وفاته وانتقاله إلى الدار الآخرة رضوان الله عليه، إذ أن وفاته كانت في يوم 17 من شوال عام 1230هـ، وكان قد صادف هذا اليومُ في ذلك التاريخ يوم الخميس، توفي رضي الله عنه بعد صلاته الصبح.