الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .
قال الشيخ الإمام العالم العامل الشيخ الاكبر محي الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن عربي :
هذه رسالة تتضمن ما ينبغي أن يُعتقد في العموم ، مُسَّلّمة من غير نظر إلى دليل أو برهان .
فيا إخوتي المؤمنين ـ ختم الله لنا ولكم بالحسنى ـ لمّا سمعت قوله تعالى عن نبيه هود عليه السلام حين قال لقومه المكذبين به وبرسالته : {إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ}[هود : 54]
فأشهد عليه السلام قومه ــ مع كونهم مكذبين به ـ على نفسه بالبراءة من الشرك بالله ، والإقرار بأحديته ، لما علم عليه السلام أن الله يستوقف عباده بين يديه ، ويسألهم عما هو عالم به ، لإقامة الحجة لهم أو عليهم ، حتى يؤدي كل شاهد شهادته .
وقد ورد أن المؤذن يشهد له مدى صوته من رطبٍ ويابس وكل من سمعه .
ولهذا يدبر الشيطان عند الأذان وله حصاص وفي رواية " وله ضراط " ، وذلك حتى لا يسمع نداء المؤذن بالشهادة ،فيلزم أن يشهد له ، فتكون تلك الشهادة له من جملة من يسعى في سعادة المشهود له ، وهو عدو محض ، ليس له إلينا خير ألبته .
وإذا كان العدو لابد أن يشهد لك بما أشهدته على نفسك ـ فأحرى ـ أن يشهد لك وليك وحبيبك : من هو على دينك وملتك .
وأحرى أن تشهده أنت على نفسك بالوحدانية والإيمان في دار الدنيا .
فيا إخوتي ، ويا أحبائي : رضي الله عنكم : أشهدكم عبدٌ ضعيف ، مسكين ، فقير إلى الله تعالى ، في كل لحظة وطرفة ، وهو مؤلف هذا الكتاب ومنشؤه .
أشهدكم ـ بعد أن أشهد الله تعالى وملائكته ومن حضر من الروحانيين ، وسمعني : أني أشهد قولا وعقدا أن الله إله واحد ، لا ثاني له في ألوهيته ، منزه عن الصاحبة والولد مالك لا شريك له ،ملك لا وزير له ، صانع لا مدبر نعه ، موجود بذاته بغير افتقار إلى موجد يوجده ، بل كل موجود سواه مفتقر إليه في وجوده ، فالعالم كله موجود به ، وهو وحده موجود بنفسه ، لا افتتاح لوجوده ، ولا نهاية لبقائه ، بل وجود مطلق غير مقيد مستمر قائم بنفسه ،ليس بجوهر متحيز فيقدر له المكان ، ولا بعرض فيستحيل عليه البقاء ، ولا بجسم فتكون له الجهة والتلقاء ( المقابل ) ،مقدس عن الجهات والأقطار مرئي بالقلوب لا بالأبصار .
استوى على عرشه كما قاله ، وعلى المعنى الذي أراده ، كما أن العرش وما حواه به استوى .
وله الآخرة والأولى .
ليس له مثلٌ معقول ولا دلت عليه العقول ( سبحانه عن المثيل والشبيه والنظير ) .
لا يحده زمان ، ولا يقله مكان .
بل كان ولا مكان ، وهو الآن على ما عليه كان .
خلق المتمكن ( الجالس في المكان ، وكل خلقه في مكان ) ، والمكان وأنشأ الزمان ، وقال أنا الواحد الحي الذي لا يئوده حفظ المخلوقات ، ولا ترجع إليه صفة لم يكن عليها من صنعة المصنوعات .
تعالى أن تحله الحوادث أو يحلها ، أو يكون بعدها أو يكون قبلها .
بل يقال " كان ولا شيء معه " ، فإن القبل والبعد من صيغ الزمان الذي أبدعه .
فهو القيوم الذي لا ينام ، والقهار الذي لا يُرام .
ليس كمثله شيء ، خلق العرش وجعلهُ حد الاستوى ( أي النهاية، فإن العرش نهاية المخلوقات ، لا خلق بعده ).
وأنشأ الكرسي وأوسعه الأرض والسماء .
اخترع اللوح والقلم الأعلى ، وأجراه كاتبا بعلمه في خلقه إلى يوم الفصل والقضاء .
أبدع العالم كله على غير مثالٍ سبق .
خلق الخلق وأنزل الأرواح والأشباح أمناً .
وجعل هذه الأشباح المنزلة إليها الأرواح في الأرض خلفا ( من قوله تعالى : َهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ) [الأنعام : 165].
وسخر لها ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منهُ .
فما تتحرك ذرة إلا إليه عنهُ .خلق الكل من غير حاجةٍ إليه ، ولا موجب أوجب ذلك عليه .
ولكن علمه سبق بأن يخلق ما خلق .
فهو : الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، وهو على كل شيءٍ قدير .
أحاط بكل شيءٍ علماً ، وأحصى كلَّ شيءٍ عددا .
يعلم السر وأخفى . يعلم خائنةَ الأعينِ وما تُخفي الصدور .
كيف لا يعلم شيئاً هو خلقه ـ {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}…؟؟؟ [الملك : 14]
علم الأشياء قبل وجودها ، ثم أوجدها على ما علمها . فلم يزل عالماً بالأشياء .
لم يتجدد له علمٌ عند تجدد الأشياء . بعلمهِ أتقن الأشياء وأحكمها ، وبهِ حكم عليها من شاء وحكمها .
عَلِمَ الكليات على الإطلاق ، كما علم الجزئيات ( بإجماع أهل النظر الصحيح واتفاق ) .
فهو عالم الغيب والشهادة تعالى عما يشركون .فعّالٌ لما يريد، فهو المريد للكائنات في عالم الأرض والسماوات .
لم تتعلق قدرته تعال بإيجاد شيء حتى أراده .
كما أنه سبحانه لم يرده حتى علمه ، إذ يستحيل في العقل أن يريد ما لم يعلم ، أو يفعل المختار المتمكن من ترك ذلك الفعل ما لا يريده .ويستحيل أن توجد نسب هذه الحقائق في غير الحي . كما يستحيل : أن تقوم الصفات بغير ذات موصوفة بها .
فما في الوجود طاعة ولا عصيان ولا ربحٌ ولا خُسران ، ولا عبدٌ ولا حُر ، ولا بردٌ ولا حر ،ولا حياةٌ ولا موت ، ولا برٌ ولا بحر ، ولا شفعٌ ولا وتر ، ولا جوهرٌ ولا عَرَضْ ، ولا صحةٌ ولا مرض ، ولا فرحٌ ولا ترح ، ولا روحٌ ولا شبح ، ولا ظلامٌ ولا ضياء ، ولا أرضٌ ولا سماء ، ولا تركيبٌ ولا تحليل ، ولا قليلٌ ولا كثير ، ولا غداةٌ ولا أصيل ، ولا بياضٌ ولا سواد ، ولا رقادٌ ولا سهاد ، ولا ظاهرٌ ولا باطن ، ولا متحركٌ ولا ساكن ، ولا يابسٌ ولا رطب ، ولا قشرٌ ولا لُب ، ولا شيءٌ من هذه النسب : المتضادات منها والمختلفات والمتماثلات ، إلا وهو مراد الحق تعالى .
وكيف لا يكون مراداً لهُ وهو أوجده ..؟؟؟ أم كيف يوجد المختار ما لا يريد …؟؟
لا راد لأمره ، ولا معقب لحكمه ، يؤتي المُلك من يشاء ، وينزع الملك ممن يشاء ، ويُعزُّ من يشاء ويذل من يشاء ، ويهدي من يشاء ويُضلُ من يشاء .
لو اجتمع الخلائق كلهم على أن يريدوا شيئاً لم يرد الله تعالى أن يريدوه : ما أرادوه أو يفعلوا شيئاً:لم يرد الله نعالى إيجاده وأرادوه عند ما أراد منهم أن يريدوه : ما فعلوه ولا استطاعوا ذلك ولا أقدرهم عليه .
فالكفر والإيمان ، والطاعة والعصيان بمشيئته وحكمه وإرادته .
ولم يزل سبحانه موصوفاً بالإرادة أزلا والعالم معدوم غير موجود ، وإن كان ثابتاً في علم غيبه .
ثم أوجد العالم من غير تفكر ولا تدبر عن جهل أو عدم علم فيعطيه التفكر والتدبر علم ما جهل : جل وعلا عن ذلك .
بل أوجده عن العلم السابق وتعيين الإرادة المنزهة الأزلية القاضية على العالم بما أوجدته عليه من : زمان ، ومكان ، وأكوان ، وألوان ، فلا مريد في الوجود على الحقيقة سواه ، إذ هو القائل سبحانه :{ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ } [الإنسان : 30]
وأنه سبحانه ، كما علم فأحكم ، وأراد فخصص ، وقدر فأوجد : كذلك سمع ، ورأى ما تحرك أو سكن ، أو نطق في الورى من العالم الأسفل والأعلى .
لا يحجب سمعه البعد ، فهو قريب ، ولا يحجب بصره القرب ، فهو بعيد .
يسمع كلام النفس في النفس ، وصوت المماسة الخفية عند اللمس ، ويرى السواد في الظلماء ، والماء في الماء .
لا يحجبه الامتزاج ولا الظلمات ول النور ، وهو السميع البصير .
تكلم ـ سبحانه ـ لا عن صمت مقدم ولا عن سكوت متوهم : بل بكلام قديم أزلي كسائر صفاته ، من : علمه ، وإرادته وقدرته .
كلم به موسى عليه السلام .
سماهُ : التنزيل والزبور والتوراة والإنجيل ، من غير حروف ٍ ولا أصوات ٍ ولا نغم ، ولا لغاتٍ بل هو خالق الأصوات والحروف واللغات .
{ الصفات السبعة }
فكلامه ـ سبحانه ـ من غير لاهاتٍ ولا لسان .
كما أن سمعهُ من غير أصمغةٍ ولا آذان .
كما أن بصرهُ من غير حدقة ٍ ولا أجفان .
كما أن إرادتهُ من غير قلبٍ ولا جنان .
كما أن قدرتهُ من غير تركيبٍ في ذاته ، ولا آلاتٍ ، ولا أعوان .
كما أن علمهُ من غير اضطرارٍ ولا نظرٍ في برهان .
كما أن حياته من غير بخار تجويف قلبٍ حدث عن امتزاج الأركان . كما أن ذاته لا تقبل الزيادة ولا النقصان .
فسبحانه : سبحان من بعيدٍ دان ، عظيم السلطان ، عميم الإحسان ، جسيم الأمتان ، كل ما سواه فهو من وجوده فائض و فضله وعدله الباسط له والقابض ، أكمل صنع العالم وأبدعه حين أوجده واخترعه ، لا شريك له في ملكه ، ولا مدبر له في ملكه . إن أنعم فنعَّم ( أي فجعلهُ نعيما متواصلا ) فذلك فضله . وإن ابتلىفعذب فذلك عدله .
لم يتصرف في ملك غيره ، فينسب للجور والحيف . ولا يتوجه عليه لسواه حكم ، فيتصف بالجزع لذلك والخوف .
كل ما سواه تحت سلطان قهره ومتصرفٌ عن إرادته وأمره .
فهو الملهم نفوس المكلفين التقوى والفجور ، وهو المتجاوز عن سيئات من شاء ، والآخذ بها ممن شاء : هنا وفي يوم النشور .
لا يُحَكِّمُ عدله في فضله ، ولا فضله في عدله .
أخرج العالم قبضتين ، وأوجد لهم منزلتين فقال : هؤلاء للجنة ولا أبالي أ وهؤلاء للنار ولا أبالي ، ولم يعترض عليه معترض هناك إذ لا موجود كان ثم سواه . فالكل تحت تصريف أسماء آلائه . فقبضته تحت أسماء بلائه . وقبضته تحت أسماء آلائه .
ولو أراد ـ سبحانه ـ لم يرد ، فكان كما أراد ، فمنهم السعيد ومنهم الشقي : هنا وفي يوم المعاد .
فلا سبيل إلى تبديل ما حكم عليه القديم ، وقد قال تعالى في الصلوات " هن خمسٌ وخمسون : ما يبدل القول لديّ وما أنا بظلامٍ للعبيد " لتصريفي في مُلكي ، وانفاذ مشيئتي في مُلكي .
لحقيقة عميت عنها البصائر والأبصار ولم تعثر عليها الأفكار ، ولا الضمائر ، إلا بوهبٍ إلهي وجود رحماني لمن اعتنى الله به من عباده وسبق له ذلك في حضرة أشهاده فعلم حين أعلم أن الألوهة أعطت هذا التقسيم ، وأنه من رقائق القديم .
فسبحان من لا فاعل سواه ، ولا موجود بذاته إلا إياه ــ والله خلقكم وما تعملون ــ لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون ــ ولله الحجة البالغة ، فلو شاء لهداكم أجمعين .
وكما أشهدت الله ـ سبحانه وتعالى ــ وملائكته وجميع خلقه وإياكم على نفسي بتوحيده ، فكذلك أُشهدهُ ــ سبحانه وتعالى ــ وملائكته وإياكم على نفسي بالإيمان بمن اصطفاه واختاره واجتباه من جوده وذلك : سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله إلى جميع الناس كافة ً ــ بشيراً ونذيرا ــ وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ــ فبلّغ صلى الله عليه وسلم ما أُنزل إليه من ربه ، وأدى الأمانة ، ونصح أمتهُ ، ووقف في حجة وداعه على كل من حضر من أتباعه فخطب وذكر ، وخوّف وحذر وبشّر ، وأنذر ، ووعد ، وأوعد ، وأمطر وأرعد ، وما خصَّ بذلك التذكير أحدا دون أحد عن إذن الواحد الصمد ،ثم قال ألا هل بلغت ؟؟ فقالوا بلغت يا رسول الله ، فقال صلى الله عليه وسلم : اللهم فاشهد .
وأني مؤمن بكل ما جاء به صلى الله عليه وسلم ، ما علمت به وما لم أعلم ، مما جاء به وقرر : أنَّ الموت عن أجلٍ مسمى عند الله ، إذا جاء لا يؤخر ، فأنا مؤمنٌ بهذا إيمانا لا ريب فيه ولا شك .
كما آمنت وأقررت أنَّ سؤال فتّانيَّ القبر حق ، وعذاب القبر حق ، وبعث الأجساد من القبور حق ، والعرض على الله حق ، والحوض حق ، والميزان حق ، وتطاير الصحف حق ، والصراط حق ، والجنة حق ، والنار حق ، وفريقٌ في الجنةِ حق ، وفريقٌ في السعير حق ، وكرب ذلك اليوم على طائفةٍ حق ، وطائفة أخرى لا يحزنهم الفزع الأكبر حق ، وشفاعة الملائكة والنبيين والمؤمنين حق ، وإخراج أرحم الراحمين من النار من شاء بالشفاعة حق وجماعة من أهل الكبائر المؤمنين يدخلون النار ، ثم يخرجون منها بالشفاعة والامتنان حق ، والتأبيد للكافرين والمنافقين في العذاب الأليم حق ، وكلُ ما جاءت به الكتب والرسل من عند الله تعالى :علمٌ أو جهلٌ حق .
فهذه شهادتي على نفسي ، أمانة عند كل من وصلت إليه أن يؤديها إذا سُئلها حيث ما كان ، نفعني الله وإياكم بهذا الإيمان وثبتنا عليه عند الانتقال من هذه الدار إلى دار الحيوان وأدخلنا دار الكرامة والرضوان ، وحال بيننا وبين دارٍ ـ سرابيلها من قطران ـ وجعلنا من الجماعة التي أخذت الكتب بالأيمان ، وممن انقلب من الحوض وهو ريان وثقل لهُ الميزان وثبت منه على الصراط القدمان إنهُ المُحسنُ المنان .
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كُنا لنهتديَّ لولا أن هدانا الله ــ لقد جاءت رسل ربنا بالحق .
تمت بحمد الله وعونه وتوفيقه .
قال الشيخ الإمام العالم العامل الشيخ الاكبر محي الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن عربي :
هذه رسالة تتضمن ما ينبغي أن يُعتقد في العموم ، مُسَّلّمة من غير نظر إلى دليل أو برهان .
فيا إخوتي المؤمنين ـ ختم الله لنا ولكم بالحسنى ـ لمّا سمعت قوله تعالى عن نبيه هود عليه السلام حين قال لقومه المكذبين به وبرسالته : {إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ}[هود : 54]
فأشهد عليه السلام قومه ــ مع كونهم مكذبين به ـ على نفسه بالبراءة من الشرك بالله ، والإقرار بأحديته ، لما علم عليه السلام أن الله يستوقف عباده بين يديه ، ويسألهم عما هو عالم به ، لإقامة الحجة لهم أو عليهم ، حتى يؤدي كل شاهد شهادته .
وقد ورد أن المؤذن يشهد له مدى صوته من رطبٍ ويابس وكل من سمعه .
ولهذا يدبر الشيطان عند الأذان وله حصاص وفي رواية " وله ضراط " ، وذلك حتى لا يسمع نداء المؤذن بالشهادة ،فيلزم أن يشهد له ، فتكون تلك الشهادة له من جملة من يسعى في سعادة المشهود له ، وهو عدو محض ، ليس له إلينا خير ألبته .
وإذا كان العدو لابد أن يشهد لك بما أشهدته على نفسك ـ فأحرى ـ أن يشهد لك وليك وحبيبك : من هو على دينك وملتك .
وأحرى أن تشهده أنت على نفسك بالوحدانية والإيمان في دار الدنيا .
فيا إخوتي ، ويا أحبائي : رضي الله عنكم : أشهدكم عبدٌ ضعيف ، مسكين ، فقير إلى الله تعالى ، في كل لحظة وطرفة ، وهو مؤلف هذا الكتاب ومنشؤه .
أشهدكم ـ بعد أن أشهد الله تعالى وملائكته ومن حضر من الروحانيين ، وسمعني : أني أشهد قولا وعقدا أن الله إله واحد ، لا ثاني له في ألوهيته ، منزه عن الصاحبة والولد مالك لا شريك له ،ملك لا وزير له ، صانع لا مدبر نعه ، موجود بذاته بغير افتقار إلى موجد يوجده ، بل كل موجود سواه مفتقر إليه في وجوده ، فالعالم كله موجود به ، وهو وحده موجود بنفسه ، لا افتتاح لوجوده ، ولا نهاية لبقائه ، بل وجود مطلق غير مقيد مستمر قائم بنفسه ،ليس بجوهر متحيز فيقدر له المكان ، ولا بعرض فيستحيل عليه البقاء ، ولا بجسم فتكون له الجهة والتلقاء ( المقابل ) ،مقدس عن الجهات والأقطار مرئي بالقلوب لا بالأبصار .
استوى على عرشه كما قاله ، وعلى المعنى الذي أراده ، كما أن العرش وما حواه به استوى .
وله الآخرة والأولى .
ليس له مثلٌ معقول ولا دلت عليه العقول ( سبحانه عن المثيل والشبيه والنظير ) .
لا يحده زمان ، ولا يقله مكان .
بل كان ولا مكان ، وهو الآن على ما عليه كان .
خلق المتمكن ( الجالس في المكان ، وكل خلقه في مكان ) ، والمكان وأنشأ الزمان ، وقال أنا الواحد الحي الذي لا يئوده حفظ المخلوقات ، ولا ترجع إليه صفة لم يكن عليها من صنعة المصنوعات .
تعالى أن تحله الحوادث أو يحلها ، أو يكون بعدها أو يكون قبلها .
بل يقال " كان ولا شيء معه " ، فإن القبل والبعد من صيغ الزمان الذي أبدعه .
فهو القيوم الذي لا ينام ، والقهار الذي لا يُرام .
ليس كمثله شيء ، خلق العرش وجعلهُ حد الاستوى ( أي النهاية، فإن العرش نهاية المخلوقات ، لا خلق بعده ).
وأنشأ الكرسي وأوسعه الأرض والسماء .
اخترع اللوح والقلم الأعلى ، وأجراه كاتبا بعلمه في خلقه إلى يوم الفصل والقضاء .
أبدع العالم كله على غير مثالٍ سبق .
خلق الخلق وأنزل الأرواح والأشباح أمناً .
وجعل هذه الأشباح المنزلة إليها الأرواح في الأرض خلفا ( من قوله تعالى : َهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ) [الأنعام : 165].
وسخر لها ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منهُ .
فما تتحرك ذرة إلا إليه عنهُ .خلق الكل من غير حاجةٍ إليه ، ولا موجب أوجب ذلك عليه .
ولكن علمه سبق بأن يخلق ما خلق .
فهو : الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، وهو على كل شيءٍ قدير .
أحاط بكل شيءٍ علماً ، وأحصى كلَّ شيءٍ عددا .
يعلم السر وأخفى . يعلم خائنةَ الأعينِ وما تُخفي الصدور .
كيف لا يعلم شيئاً هو خلقه ـ {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}…؟؟؟ [الملك : 14]
علم الأشياء قبل وجودها ، ثم أوجدها على ما علمها . فلم يزل عالماً بالأشياء .
لم يتجدد له علمٌ عند تجدد الأشياء . بعلمهِ أتقن الأشياء وأحكمها ، وبهِ حكم عليها من شاء وحكمها .
عَلِمَ الكليات على الإطلاق ، كما علم الجزئيات ( بإجماع أهل النظر الصحيح واتفاق ) .
فهو عالم الغيب والشهادة تعالى عما يشركون .فعّالٌ لما يريد، فهو المريد للكائنات في عالم الأرض والسماوات .
لم تتعلق قدرته تعال بإيجاد شيء حتى أراده .
كما أنه سبحانه لم يرده حتى علمه ، إذ يستحيل في العقل أن يريد ما لم يعلم ، أو يفعل المختار المتمكن من ترك ذلك الفعل ما لا يريده .ويستحيل أن توجد نسب هذه الحقائق في غير الحي . كما يستحيل : أن تقوم الصفات بغير ذات موصوفة بها .
فما في الوجود طاعة ولا عصيان ولا ربحٌ ولا خُسران ، ولا عبدٌ ولا حُر ، ولا بردٌ ولا حر ،ولا حياةٌ ولا موت ، ولا برٌ ولا بحر ، ولا شفعٌ ولا وتر ، ولا جوهرٌ ولا عَرَضْ ، ولا صحةٌ ولا مرض ، ولا فرحٌ ولا ترح ، ولا روحٌ ولا شبح ، ولا ظلامٌ ولا ضياء ، ولا أرضٌ ولا سماء ، ولا تركيبٌ ولا تحليل ، ولا قليلٌ ولا كثير ، ولا غداةٌ ولا أصيل ، ولا بياضٌ ولا سواد ، ولا رقادٌ ولا سهاد ، ولا ظاهرٌ ولا باطن ، ولا متحركٌ ولا ساكن ، ولا يابسٌ ولا رطب ، ولا قشرٌ ولا لُب ، ولا شيءٌ من هذه النسب : المتضادات منها والمختلفات والمتماثلات ، إلا وهو مراد الحق تعالى .
وكيف لا يكون مراداً لهُ وهو أوجده ..؟؟؟ أم كيف يوجد المختار ما لا يريد …؟؟
لا راد لأمره ، ولا معقب لحكمه ، يؤتي المُلك من يشاء ، وينزع الملك ممن يشاء ، ويُعزُّ من يشاء ويذل من يشاء ، ويهدي من يشاء ويُضلُ من يشاء .
لو اجتمع الخلائق كلهم على أن يريدوا شيئاً لم يرد الله تعالى أن يريدوه : ما أرادوه أو يفعلوا شيئاً:لم يرد الله نعالى إيجاده وأرادوه عند ما أراد منهم أن يريدوه : ما فعلوه ولا استطاعوا ذلك ولا أقدرهم عليه .
فالكفر والإيمان ، والطاعة والعصيان بمشيئته وحكمه وإرادته .
ولم يزل سبحانه موصوفاً بالإرادة أزلا والعالم معدوم غير موجود ، وإن كان ثابتاً في علم غيبه .
ثم أوجد العالم من غير تفكر ولا تدبر عن جهل أو عدم علم فيعطيه التفكر والتدبر علم ما جهل : جل وعلا عن ذلك .
بل أوجده عن العلم السابق وتعيين الإرادة المنزهة الأزلية القاضية على العالم بما أوجدته عليه من : زمان ، ومكان ، وأكوان ، وألوان ، فلا مريد في الوجود على الحقيقة سواه ، إذ هو القائل سبحانه :{ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ } [الإنسان : 30]
وأنه سبحانه ، كما علم فأحكم ، وأراد فخصص ، وقدر فأوجد : كذلك سمع ، ورأى ما تحرك أو سكن ، أو نطق في الورى من العالم الأسفل والأعلى .
لا يحجب سمعه البعد ، فهو قريب ، ولا يحجب بصره القرب ، فهو بعيد .
يسمع كلام النفس في النفس ، وصوت المماسة الخفية عند اللمس ، ويرى السواد في الظلماء ، والماء في الماء .
لا يحجبه الامتزاج ولا الظلمات ول النور ، وهو السميع البصير .
تكلم ـ سبحانه ـ لا عن صمت مقدم ولا عن سكوت متوهم : بل بكلام قديم أزلي كسائر صفاته ، من : علمه ، وإرادته وقدرته .
كلم به موسى عليه السلام .
سماهُ : التنزيل والزبور والتوراة والإنجيل ، من غير حروف ٍ ولا أصوات ٍ ولا نغم ، ولا لغاتٍ بل هو خالق الأصوات والحروف واللغات .
{ الصفات السبعة }
فكلامه ـ سبحانه ـ من غير لاهاتٍ ولا لسان .
كما أن سمعهُ من غير أصمغةٍ ولا آذان .
كما أن بصرهُ من غير حدقة ٍ ولا أجفان .
كما أن إرادتهُ من غير قلبٍ ولا جنان .
كما أن قدرتهُ من غير تركيبٍ في ذاته ، ولا آلاتٍ ، ولا أعوان .
كما أن علمهُ من غير اضطرارٍ ولا نظرٍ في برهان .
كما أن حياته من غير بخار تجويف قلبٍ حدث عن امتزاج الأركان . كما أن ذاته لا تقبل الزيادة ولا النقصان .
فسبحانه : سبحان من بعيدٍ دان ، عظيم السلطان ، عميم الإحسان ، جسيم الأمتان ، كل ما سواه فهو من وجوده فائض و فضله وعدله الباسط له والقابض ، أكمل صنع العالم وأبدعه حين أوجده واخترعه ، لا شريك له في ملكه ، ولا مدبر له في ملكه . إن أنعم فنعَّم ( أي فجعلهُ نعيما متواصلا ) فذلك فضله . وإن ابتلىفعذب فذلك عدله .
لم يتصرف في ملك غيره ، فينسب للجور والحيف . ولا يتوجه عليه لسواه حكم ، فيتصف بالجزع لذلك والخوف .
كل ما سواه تحت سلطان قهره ومتصرفٌ عن إرادته وأمره .
فهو الملهم نفوس المكلفين التقوى والفجور ، وهو المتجاوز عن سيئات من شاء ، والآخذ بها ممن شاء : هنا وفي يوم النشور .
لا يُحَكِّمُ عدله في فضله ، ولا فضله في عدله .
أخرج العالم قبضتين ، وأوجد لهم منزلتين فقال : هؤلاء للجنة ولا أبالي أ وهؤلاء للنار ولا أبالي ، ولم يعترض عليه معترض هناك إذ لا موجود كان ثم سواه . فالكل تحت تصريف أسماء آلائه . فقبضته تحت أسماء بلائه . وقبضته تحت أسماء آلائه .
ولو أراد ـ سبحانه ـ لم يرد ، فكان كما أراد ، فمنهم السعيد ومنهم الشقي : هنا وفي يوم المعاد .
فلا سبيل إلى تبديل ما حكم عليه القديم ، وقد قال تعالى في الصلوات " هن خمسٌ وخمسون : ما يبدل القول لديّ وما أنا بظلامٍ للعبيد " لتصريفي في مُلكي ، وانفاذ مشيئتي في مُلكي .
لحقيقة عميت عنها البصائر والأبصار ولم تعثر عليها الأفكار ، ولا الضمائر ، إلا بوهبٍ إلهي وجود رحماني لمن اعتنى الله به من عباده وسبق له ذلك في حضرة أشهاده فعلم حين أعلم أن الألوهة أعطت هذا التقسيم ، وأنه من رقائق القديم .
فسبحان من لا فاعل سواه ، ولا موجود بذاته إلا إياه ــ والله خلقكم وما تعملون ــ لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون ــ ولله الحجة البالغة ، فلو شاء لهداكم أجمعين .
وكما أشهدت الله ـ سبحانه وتعالى ــ وملائكته وجميع خلقه وإياكم على نفسي بتوحيده ، فكذلك أُشهدهُ ــ سبحانه وتعالى ــ وملائكته وإياكم على نفسي بالإيمان بمن اصطفاه واختاره واجتباه من جوده وذلك : سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله إلى جميع الناس كافة ً ــ بشيراً ونذيرا ــ وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ــ فبلّغ صلى الله عليه وسلم ما أُنزل إليه من ربه ، وأدى الأمانة ، ونصح أمتهُ ، ووقف في حجة وداعه على كل من حضر من أتباعه فخطب وذكر ، وخوّف وحذر وبشّر ، وأنذر ، ووعد ، وأوعد ، وأمطر وأرعد ، وما خصَّ بذلك التذكير أحدا دون أحد عن إذن الواحد الصمد ،ثم قال ألا هل بلغت ؟؟ فقالوا بلغت يا رسول الله ، فقال صلى الله عليه وسلم : اللهم فاشهد .
وأني مؤمن بكل ما جاء به صلى الله عليه وسلم ، ما علمت به وما لم أعلم ، مما جاء به وقرر : أنَّ الموت عن أجلٍ مسمى عند الله ، إذا جاء لا يؤخر ، فأنا مؤمنٌ بهذا إيمانا لا ريب فيه ولا شك .
كما آمنت وأقررت أنَّ سؤال فتّانيَّ القبر حق ، وعذاب القبر حق ، وبعث الأجساد من القبور حق ، والعرض على الله حق ، والحوض حق ، والميزان حق ، وتطاير الصحف حق ، والصراط حق ، والجنة حق ، والنار حق ، وفريقٌ في الجنةِ حق ، وفريقٌ في السعير حق ، وكرب ذلك اليوم على طائفةٍ حق ، وطائفة أخرى لا يحزنهم الفزع الأكبر حق ، وشفاعة الملائكة والنبيين والمؤمنين حق ، وإخراج أرحم الراحمين من النار من شاء بالشفاعة حق وجماعة من أهل الكبائر المؤمنين يدخلون النار ، ثم يخرجون منها بالشفاعة والامتنان حق ، والتأبيد للكافرين والمنافقين في العذاب الأليم حق ، وكلُ ما جاءت به الكتب والرسل من عند الله تعالى :علمٌ أو جهلٌ حق .
فهذه شهادتي على نفسي ، أمانة عند كل من وصلت إليه أن يؤديها إذا سُئلها حيث ما كان ، نفعني الله وإياكم بهذا الإيمان وثبتنا عليه عند الانتقال من هذه الدار إلى دار الحيوان وأدخلنا دار الكرامة والرضوان ، وحال بيننا وبين دارٍ ـ سرابيلها من قطران ـ وجعلنا من الجماعة التي أخذت الكتب بالأيمان ، وممن انقلب من الحوض وهو ريان وثقل لهُ الميزان وثبت منه على الصراط القدمان إنهُ المُحسنُ المنان .
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كُنا لنهتديَّ لولا أن هدانا الله ــ لقد جاءت رسل ربنا بالحق .
تمت بحمد الله وعونه وتوفيقه .