اللهم صل على سيدنا محمد الوصف والوحي والرسالة والحكمة وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
الإذن بالدعوة والإرشاد :
على مر الزمان ظهرت الكثير من الفرق في ديننا الإسلامي ، زعم أصحابها أنهم دعاة إلى الله تعالى ، وأن غايتهم إصلاح العباد والبلاد والسير بهم على جادة الصواب . واستند الكثير منهم إلى نصوص من الكتاب والسنة ، أما حملاً لها على غير محملها ، أو تأويلاً لها بما يتناسب وأغراض أو دوافع كل فرقة .
ورب قائل يقول : يحق للناس أن يحاروا في اختيار الفرقة الصحيحة وتمييزها عن الفرقة الضالة ، وهو ما حصل بالفعل مما أدى إلى تشتت الكثير من المسلمين في القرون الماضية ، بل وحتى في عصرنا الحاضر .
ونقول : بل لا يحق للناس أن يحاروا في معرفة الدعاة الحقيقيين إلى الله تعالى ، وذلك لأن الحق سبحانه أوضح في محكم كتابه إن الدعوة إلى الله تعالى لا تكون إلا بإذنه ، وبيّن ذلك في قوله تعالى على لسان سيدنا محمد : ( وَداعِياً إلى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنيراً )( الأحزاب : 46 ) ، فصاحب الإذن الإلهي بالدعوة من الله هو وحده المختص بالإرشاد إليه سبحانه وتعالى .
وقد يقال : إن كل واحد من أولئك الدعاة يزعم أنه هو الداعي إلى الله بإذنه .
ونقول : إننا نطالب من يزعم ذلك أن يأت بالبرهان إن كان من الصادقين . والبرهان هنا هو يوجد فيه شرطي الإذن الإلهي بالدعوة ، وهما الوارد ذكرهما في قوله تعالى : ( ادْعُ إلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ )( النحل : 125 ) ، فكما هو واضح من النص القرآني أن الداعي ينبغي أن يكون مدعوماً بشرط امتلاك الحكمة ، ومن ثم الموعظة الحسنة .
فالحكمة : وهي الأفعال الخارقة للعادة ( معجزة أو كرامة ) ، ومن ثم أحكام الدين هما دليل الإجازة بالإرشاد من قبل الله تعالى ، وعلى هذا فكل من يأتي بالشرط الثاني فقط دون الأول فليس من أصحاب الإذن الإلهي بالدعوة .
إن علامة من يختاره الله تعالى من بين عباده ليكون داعياً إليه بإذنه ، هو أن يكون مستجاب الدعوة من الله ، يقول تعالى : ( وَإذا سَأَلَكَ عِبادي عَنّي فَإِنّي قَريبٌ أُجيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذ دَعانِ )( البقرة : 186 ) ، فمن يدعو ولا يستجاب له فهو من المدعين لا من الداعين .
ولكن من هم العباد الذين إذا دعوا الله تعالى فإنه سبحانه يستجيب لهم في الوقت ؟
ولعل قائل يقول : هم المتضرعون إليه ، الرافعون أكفهم ببابه السائلون من فضله في الليل و النهار ..
فنقول : لو كان المقصود ( بالعباد ) في هذه الآية الكريمة - تحديداً - هم هؤلاء ، إذاً للمسوا أجمعهم الاستجابة على جميع أدعيتهم بلا استثناء ، ولكن صريح الآية الكريمة والواقع يدلان على غير ذلك .
إن معرفة حقيقة ( العباد ) المستجاب دعاءهم ، يتحقق من خلال الفهم الصحيح لكلمة ( الداعي ) في الآية الكريمة ، فهي لا تدل على الناس المبتهلين إلى الله الرافعين أكف الضراعة ، وإنما تعني الدعاة إلى الله بإذنه ، أي الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، وما يوضح هذه الدلالة ويؤكدها النصوص القرآنية الآتية :
• يقول تعالى : ( وَداعِياً إلى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنيراً )( الأحزاب : 46 ) .
• ويقول تعالى : ( أَجيبوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنوبِكُمْ )( الأحقاف : 31 ) .
• ويقول تعالى : ( وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ في الْأَرْضِ )( الأحقاف : 32 ) .
• ويقول تعالى : ( يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعونَ الدّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ )( طه : 108 ) .
• ويقول تعالى : ( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدّاعِ إلى شَيْءٍ نُكُرٍ )( القمر : 6 ) .
• ويقول تعالى : ( مُهْطِعينَ إلى الدّاعِ يَقولُ الْكافِرونَ هَذا يَوْمٌ عَسِرٌ )( القمر : 8 ) .
والواضح من هذه النصوص أن المراد بكلمة ( الداعي ) في القرآن الكريم هو الذي يدعو إلى أمرٍ ما سواء أكان إلى الله تعالى أو إلى غير طريق الله ، فالذين يدعون إلى الله تعالى بإذنه أولئك حزب الله وأولياؤه ، والذين يدعون إلى شيء نكر أولئك حزب الشيطان وأولياؤه . وما يهمنا هو أن كلمة ( الداعي ) هنا ترجع إلى المصدر ( الدعوة ) وليس إلى المصدر ( الدعاء ) .
وإذا عدنا إلى قوله تعالى : ( وَإذا سَأَلَكَ عِبادي عَنّي فَإِنّي قَريبٌ أُجيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إذا دَعانِ فَلْيَسْتَجيبوا لي وَلْيُؤْمِنوا بي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدونَ ) نجد أن الدعوة فيها اقترنت بالعبدية لله تعالى ، مما ينص على أن المراد هنا بالدعاة هم أولياء الله تعالى ، المرشدين الخلق إلى الحق .
فهذه الآية الكريمة تكشف جانباً آخر من جوانب مخ العبادة ( الدعاء ) ، فهي تشير في كلمة ( الداعي ) إلى أن لكل زمان إمام وخليفة نائب عن حضرة الرسول في الدعوة إلى الله بإذنه : ( وَداعِياً إلى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنيراً )( الأحزاب : 46 ) ، فهو العبد الكامل المسمى بـ ( شيخ الطريقة ) القريب من الله تعالى ، الذي عن طريقه تتحقق الدرجات والمراتب الروحية لعباد الله الذين توفرت فيهم صفات العبودية ، وهو المرجع الأعلى لقضاء الحاجات وجميع الخيرات ، فهو وحيد دهره ، وباب رحمة الله ورسوله ، فاستجابة دعائه أحد الوسائل للكشف عن صدقه في دعوته إلى الله بإذنه ، أي : هو المأذون بالدعوة والإرشاد إلى الله تعالى .
في أقسام الدعوة :
يقول الغوث الأعظم عبد القادر الكيلاني :
« الدعوة ... على ثلاثة أقسام :
القسم الأول : [ الحكمة ] علم الحال ، وهو لبها وأعطي للرجال ، وهمة الرجال به كما قال : ( همة الرجال تقلع الجبال )( كشف الخفاء ج : 2 ص : 2888 ) ، والمراد من الجبال قساوة القلب يمحو بدعائهم وتضرعهم ، كما قال الله تبارك وتعالى : ( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أوتِيَ خَيْراً كَثيراً )( البقرة : 269 ) .
والقسم الثاني : قشر ذلك اللب أعطي للعلماء الظاهرية ، وهو الموعظة الحسنة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ...
والقسم الثالث : وهو قشر القشر أعطي للأمراء ، وهو العدل الظاهري ، والسياسة المشار إليها بقوله تبارك وتعالى : ( وَجادِلْهُمْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ )( النحل : 125 ) ، فلهم مظاهر القهر ، وسبب صيانة نظام الدين كالقشر الأحمر (الشيخ عبد القادر الكيلاني – سر الأسرار ومظهر الأنوار – ص 34 – 35 ) .