دور الزاوية ( التكْيَةَ ) في التربية
الحمد
لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وآل بيته الطيبين الطاهرين وعلى
صحابته الغر الميامين الّذين نذروا أنفسهم لنشر هذا الّدين ، فبعد أن عمَّ الإسلام
المعمورة وقوية شوكته ، بدأت تحاك مؤامرات الخصوم ، لتهدم أركانه وتقوض بنيانه بمختلف
الوسائل والأساليب واستخدام كل الطرق التي تضلل شبابنا وتفسد أجيالنا ، فتارة بالترغيب
وأخرى بالترهيب وتارة بالموجات الإباحية ، والتيارات الإباحية ، وخصوصاً بعد أن دخلت
وسائل التثقيف المُضلِّلَة البيوتَ كـ( التلف فلوس ) والدين أعني التلفزيون ، ومخرّب
العقيدة ( الدش ) ومحرِّفِ الشباب (الهاتف المحمول) والموجات المتعاقبة من التخريب
الفكري والعقائدي بما تنذر بمصير أسودٍ لأمتنا الإسلامية إلا أن نعتصم بحبل الله المتين
وننبذ الخلافات المذهبية والقومية والطائفية ونربط القلوب جميعاً بالله تعالى ، وكيف
يكون ذلك ؟ ونحن فريسةٌ هذه الأمراض ويعمل عدوّنا ليلا ونهاراً في أن يعيد الأُمة إلى
ما قبل الإسلام فتراه يؤجج الصراعات الطائفية بكل الوسائل لكي يضعفنا ويحقق ما يصبو
إليه ما لم يتحقق لهم بقوة السيف قبل مئات السنيين ، والذي يثير الانتباه ويلفت النَّظَرْ
هو الطعن المقصود والهجوم العنيف على التصوّف الإسلامي !! لماذا ؟ هل صحيح مثل ما يقوله
البعض من أن نهج التصوف مخالف لمنهج الإسلام ؟ ! كلاّ وألف كلا ، وإنّما هذا الهجوم
العنيف المنظَّم سببه أن التصوّف هو جوهر الإسلام الصحيح وروحه النابضة وحيويته الفعّالة
، فلقد أراد المبطلون المدعومين من قبل الأعداء تشويه معالمه وتصويره بأنه ضعفاً وانعزالاً
وابتداعاً وهرباً من واقع الحياة ونظامها ، فللتصوف ورجاله وللزويا (74) ( التكايا ) الدور الرئيسي في نشر الدعوة الإسلامية
بعد أن توقّفت الفتوحات الإسلامية ، وللتكايا الدور الرئيسي في تربية المريدين التربية
الإسلامية الصحيحة والأخلاق العالية ، فهل لا شنَّ هؤلاء المسمومون حملاتهم على أعداء
الدين ونالوا بذلك فضلين: فضل جهاد ألسنتهم وأقلامهم ، وفضل الكف عن الطعن وهدم الدين
بالطعن في رجاله!!، وحسن الظن مقدّم عند المسلمين وليس سوء الظن روى أنس بن مالك رضي
الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) قال له ( يا بني إن استطعت أن تصبح وتمسي
وليس في قلبك غش لأحد فافعل ، ثم قال يا بني وذلك من سنتي ، ومن أحيا سنتي فقد أحياني
، ومن أحياني كان معي في الجنة ) (75) فتمسك أهل التصوف بإحياء سنن النبيّ وأفعاله
وأقواله وربّوا المريدين على ذلك واعتبروهُ من الجهاد الأكبر نزولا عند حديثه(صلى الله
عليه وسلّم) (عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ألا وهو جهاد النفس (76)) وتمسّكوا
بقوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا
اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(آل عمران:200) وجهاد النفس ينتج عنهُ كما قال الشيخ
ابن القيم - رحمه الله أربع مراتب:-
إحداها
: أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها
إلا به.
الثانية:
أن يجاهدها على العمل به بعد علمه.
الثالثة:
أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه.
الرابعة:
أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق ويتحمل ذلك كله لله، فإذا
أستكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين (77).
وحديث
النبي (صلى الله عليه وسلّم) (ألا أُخبركم بما يمحوا الله بهِ الخطايا ، وترفع به الدرجات
؟ قالوا: بلى يا رسول الله ، قال: إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطى إلى المساجد،
وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط ) (78) ، وبهذا يكون الرباط
قد حدد على الوجه التالي (79) .
1- ترك
الأسباب والاكتفاء بكفالة مسبب الأسباب .
2- قفل
باب معاملة الخلق ، وفتح باب معاملة الحق .
3- وصل
الليل بالنهار في العبادة ، والخروج عن كل عادة .
4- نزع
الغلِّ من القلب .
5- البعد
عن المخالطات ، واجتناب التبعات ، وهي حقوق الخلائق .
من هنا
أنشأت الخلَوات والتكايا ، والزوايا ، والخانقاه ، وهي الرباط وإن تعددت الأسماء، والقصد
المرابطة في الله على طاعة الله وذكره بالعبادة والسجود والدعاء ، وباجتماعهم في الرباط
تجتمع بواطنهم وتصفى نفوسهم وقلوبهم فيصبحوا إخواناً على سررٍ متقابلين ، ولربما سائل
يسأل لماذا تذكرون في التكايا وليس في المساجد ؟ وقد قال تعالى ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ
اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ
وَالْآصَالِ) (النور:36) سؤال وجيه إجابته تسد الباب بوجه ذرائع المتقولين والمتحاملين
على أهل الحقيقة ، والجواب: أن السادة الصوفية يرون أن قوله تعالى في هذه الآية لا
يقصد بها المساجد فقط ، كما هو رأي أهل العلم ، فالمساجد الآن ليست كما كانت في بداية
الدعوة ، فالذّي يجلس الآن في المسجد مع حلقته يتّهم بشتّى أنواع الاتهامات السياسية
وغيرها ، وإنما يضاف للمساجد بيوت المدينة أو بيوت النبي (صلى الله عليه وسلّم) ، وقد
يقصد بها كل بقاع الأرض حيث جعلت مسجداً وطهوراً ، فالعبرة ليس بالمكان وإنّما بالذاكرين
الله ، فما من بقعة يرفع بها الآذان أو يصلى بها إلا شهدت له يوم القيامة بذلك ، فعن
عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة (رضي الله عنه ) إن أبا سعيد الخدري (رضي الله
عنه ) قال له إنّي أراك تحب الغنم والبادية فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأَذّنتَ للصلاة
فارفع صوتك بالنداء فإنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) يقول ( أنّه لا يسمع
مدى صوت المؤذن جنٌ ولا إنسٌ ولاشيء إلا شهد له يوم القيامة ) (80) قال تعالى :
( وَاصْبِرْ
نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ
وَجْهَهُ وَلا تَعْدُعَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا
تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ
فُرُطاً) (الكهف:28) عندما نزلت هذه الآية قال النبي(صلى الله عليه وسلّم) لأهل الصفة
مبتسماً ( الحمدُ للهِ الذي جعل من أُمةِ محمد من أُمِرَ محمّدٌ أن يصبر نفسهُ معهم
) (81) ، هذا هو شأن مشايخ التصوّف في رباطهم ، فالجلوس على سجّادة النهاية له الأثر
من السنّة النبوية ، فقد روي عن أم المؤمنين عائشة ( رضي الله عنها ) قالت كنت أجعل
لرسول الله (صلى الله عليه وسلّم) حصيراً من الليف يصلي عليه من الليل وروي عن ميمونة
زوج النبي (رضي الله عنها ) إنها ( كانت تفرش لرسول الله (صلى الله عليه وسلّم) الخمرة
في المسجد فيصلي عليها (82) ، وهذا من تواضع النبي(صلى الله عليه وسلّم) أن يتعبد ويصلي
على أبسط الأشياء { أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ
لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ }النحل23 ، إذن شأن[ الرُبط ]أو التكايا التربية الصحيحة
وفق قواعد الدين الصحيحة ، وإن حصل شواذ في بعضها نتيجة جهل القائمين على الإرشاد فيها
لا يقدح ببقية التكايا ولا يقدح بالسادة القائمين بالإرشاد فيها ولكل قاعدة شواذ ،
وفي التاريخ شواهد كثيرة على تربية رجال كانوا فطاحل في العلم والعمل وخلدهم التاريخ
في خدمة الإسلام والمسلمين ،.
والله
يا أخي لو رأيت ما يَكتب ويَقول بعض إخواننا المسلمين على التصوف وأهله وكيف يكفّرونهم
ويخرجونهم من الملّة ،لشققت ما عليك من الثياب ، فالتكفير ليس من صفات المسلمين ، بل
إنّ المؤمنون أخوة وكما قال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا
بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }الحجرات10.
بل الأكثر
من هذا قرأت كتبا في العقيدة ، لأحدهم ، وقد ملئه بالتكفير لكل طوائف المسلمين ، فقط
لم يكفر الطائفة التي ينتسب هو لها ، وأرى أنه وأمثاله سيقفون طويلا أمام المولى عز
وجل عن ذلك ، وقد رأيته يوما على شاشة التلفاز وهو يتبجح بأنه وهّابي !! وأقول: أنا
قرأت عن عقيدة وأفكار محمد عبد الوهاب !! لم يقل كما قاله هذا الرجل وأمثاله ، ولم
يكفّر أحد كما يكفرون الناس الآن ، هدانا الله وإياهم إلى صواب القول والعمل ،.
وقرأت
عن الشيخ ابن تيمية لم يقل كما يقول من يدعي أنه يقتدي به ،لم يقل الرجل كما يقول الذين
يستشهدون بأفكاره وحاشاه من ذلك ، والله الموفق للصواب
اللهم
أهدنا سواء السبيل وبصِّرنا وإياهم بحقائق الدين يا ارحم الراحمين وأصلح بين المسلمين
إنّك على كل شئ قدير ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(74)
ـ وتسمى أيضا الرباط ، والرباط مأخوذ من قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) معناه
انتظار الصلاة بعد الصلاة لقوله (صلى الله عليه وسلّم) فذلك الرباط ، انظر القاموس
المحيط للفيروز آبادي .
(75)
ـ انظر جامع الأحاديث للسيوطي 23/199، وسنن الترمذي 10/197
(76)
أنظر شرح البخاري لبن بطال كتاب التعبير 10/195 بلفظ جهاد النفس أكبر من جهاد العدو،
ومر تخريج الحديث.
(77)
- الفوائد المستفادة من شرح ثلاثة الأصول 1/3 قسم العقيدة
(78)
ـ انظر صحيح مسلم 2/57 ، ومسند احمد16/219 ،وموطأ مالك 2/224 صحيح ابن حبان 3/313 ،
وسنن الترمذي 1/87 ، وصحيح ابن خزيمة 1/6 ، (79) ـ انظر الطريق إلى الله للداعي الإسلامي
ياسين رشدي ص/88
(80)
ـ أنظر مختصر صحيح البخاري رقم 373 ص99 ، ورياض الصالحين ص / 414
(81)
ـ أنظر إحياء علوم الدين للغزالي 4/ 196 (82) ـ الخمرة : ما تغطي بها المرأة رأسها
.// من مؤلفات الشيخ سيد قاسم سيد عبد النعيمي جازاه الله عنا وعن المسلمين خير
الجزاء