التوَسـِل
التوسل شرعاً هو التقرب إلى الله تعالى بما يحب ، ولغةً جاء من وسل يسل أي رغب وتقرّبَ وأجمع العلماء على جواز التوسل وإختلفوا في الكيفيات والصيغ والدليل على جوازه أقوى من الدليل على عدمه ( والعلم قيد الدليل ) قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَة) (المائدة: من الآية35) هذه الآية الكريمة إبتدأت بالتقوى ثمَّ إبتغاء الوسيلة فمن تقوى الله ترك كل المُحرّمات وإلتزام كل الطاعات ومن فعل الطاعات أداء الفرائض والنوافل ومحبة الله ورسوله والأنبياء والأولياء الصالحين ومصاحبة الصادقين قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة:119) ومن الأمانة أن لا نساوي بينهم وبين أهل العصيان والفساد فقد فرق المَولى ( عزَّ وجَل) بين هؤلاء وهؤلاء بقوله تعالى ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ إجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) (الجاثـية:21) فمن ضمن وجوب الطاعات المَحبة ومن وجوبها الدُعاء ومن وجوبها التوَسل فإبتغاء الوسيلة أمر إلهي وكان (صلى الله عليه وسلّم ) يُعلم أصحابه التوسل ففي الحديث الصحيح عن عثمان بن حنيف ( رضي الله عنه) أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان (رضي الله عنه) في حاجة فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته فلقي عثمان بن حنيف فشكا ذلك إليه فقال له عثمان بن حنيف إئت الميضأة ثم إئتِ المسجد فصلّي فيه ركعتين ثم قل اللهم إني أسألك وأتوجهُ إليك بنبينا مُحمّد (صلى الله عليه وسلّم) نبي الرحمة يا مُحمد إني أتوجه بك إلى ربّي فيقضي لي حاجتي وتذكر حاجتك فأنطلق الرجل فصنع ما قاله له ثمَّ أتى عثمان بن عفان فجاءَ البوّاب حتى أخذَ بيدهِ فأدخله على عثمان (رضي الله عنه ) فأجلسهُ على الطّنفَسة وقال ما حاجتك فذكر حاجته فقضاها لهُ ثمَّ قال له ما ذكرت حاجتك حتى كانت الساعة وقال ما كان لك من حاجة فأتنا ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له جزاك الله خيراً ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليَّ حتى كلمته فيَّ فقال له عثمان بن حنيف والله ما كلّمته ولكن شهدت رسول الله ( صلى الله عليه وسلّم) قد أتاه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال له النبي(صلى الله عليه وسلّم) أتصبر فقال يا رسول الله ليس لي قائد وقد شقَّ عليَّ فقال له النبي (صلى الله عليه وسلّم) إئت الميضأة فتوضأ ثمَّ صلّي ركعتين ثمَّ إدعوا بهذه الكلمات ( اللهم إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة يا مُحمد إنّي توجهت بك إلى ربّي في حاجتي هذه فتقضى اللهم شفّعهُ فيَّ ) فقال عثمان بن حنيف فو الله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل عليه الرجل كأنه لم يكن به ضرٌّ قط (81) وهذا عُمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا قحطوا إستسقى بالعباس عم النبي (صلى الله عليه وسلّم) فعن أنس بن مالك (رضي الله عنه) أن عمر(رضي الله عنه) استسقى عندما قحطوا في أحد السنين فقال ( اللهم إنّا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فُيسقون ) (82)
وأبيضُ يُستسقى الغمامَ بوجههِ ثمالُ اليتامى عِصمةُ للأراملِ
دلَّ هذا الحديث على أن الصحابة الكرام كانوا يتوسلون بالنبي (صلى الله عليه وسلّم) لإعتقادهم وهو الحق إنه أقرب مخلوق لله تعالى فلما توفى (صلى الله عليه وسلّم) توسلوا بعمه العباس لقرابته من النبي (صلى الله عليه وسلّم) وإنحرف البعض عن معنـاه الواضح إلى التخصيص وحذَفَ المتأخر ون بداية الحديث ليخلصوا إلى أن التوسل كان بحياة النبي (صلى الله عليه وسلّم) مما هو غير مُتيسر بعد وفاته (صلى الله عليه وسلّم) وإلا في الصحابة من هو أقدم إسلاماً منه وقد أجمعت الأمة على فضل الكثير من الصحابة كأبي بكرٍ وعُمر وعُثمانٍ وعَلي وغيرهم رضي الله عنهم فهم أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلّم وحتى لا يتوهم من يتوهم أن التوسل في حياته (صلى الله عليه وسلّم) فقط فبعد وفاته (صلى الله عليه وسلّم ) أصاب الناس القحط في زمن الخليفة عُمر بن الخطاب فجاء الصحابي بلال بن الحرث إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله إستسق لأمتك فإنهم قد هلكوا فأتاه النبي صلى الله عليه و سلم في المنام فقال له ( إئت عُمر فقل له إنكم مُستسقون فعليك الكفين وقال يا رب ما آلو إلا ما عجزت عنه ) (83) وسنَّ لنا رسول الله(صلى الله عليه وسلّم) التوسل بحق الأنبياء وإن كانوا في دار الآخرة وكُتب الحديث مليئة بأحاديث التوسل وزار يوما قبر والدته في التربية فقال (صلى الله عليه وسلّم) ( اللهم إغفر لأمي فاطمة بنت أسد ولقنها صحبتها ووسع مُدخلها بحق نبيك والأنبياء الّذين من قبلي ) (84) وعن عُمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال رسول الله(صلى الله عليه وسلّم ) ( لمّا اقترف آدم الخطيئة قال يا رب أسألك بحق مُحمّد إلا غفرت لي فقال الله تعالى يا آدم كيف عرفت مُحمد ولم أخلقه ؟ قال يارب إنك لما خلقتني رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً لا اله إلا الله مُحمد رسول الله فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحَبُ الخلقِ إليك فقال تعالى صدقت يا آدم إنه لأحبُ الخلقِ إليَّ وإذ سألتني بحقه فقد غفرت لك ولولا مُحمد ما خلقتك ) (85) وروى البخاري حديث الثلاثة الذين آووا إلى الغار فسال السيل وألقى عليه صخرة سدّت فمه فصاروا لا يستطيعون الخروج فقالوا أي هؤلاء إنه لا ينجيكم ممّا أنتم فيه إلا أن تدعوا الله تعالى بصالح ما عملتم ففعلوا فإستجاب الله تعالى لهم (86) وعن الإمام علي (رضي الله عنه) قال قدم علينا أعرابي بعد ما دفن رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) بثلاثة أيام فرمى بنفسه على قبر رسول الله(صلى الله عليه وسلّم) وحثَّ على رأسهِ من ترابه ثم قال قلت يا رسول الله فسمعنا قولك ووعيت عن الله (عزَّ وجل) فوعينا عنك وكان فيما أُنزلَ إليك ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَإسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَإسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (النساء الآية64) وقد ظلمتُ نفسي وجئتُكُ تستغفر لي فنودي من القبر قد غُفر لك (87) وكان الإمام الشافعي (رضي الله عنه) ببغداد يتوسل بالإمام أبي حنيفة (رضي الله عنه) فيجيء إلى ضريحه فُيسلم عليه ثم يتوسل إلى الله تعالى بهِ في قضاء حاجته (88) فالأنبياء أحياء في قبورهم ومن كمال حياتهم أنهم يُصلون في قبورهم ويسمعون ويعون ولنعش قليلاً مع الأحاديث التي تثبت ذلك
فقد روى أبو يُعلى والبزار وأبو نعيم وإبن عساكر من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال (الأنبياء أحياء في قبورهم يُصلون) وفي حديث أبي هريرة عند مُسلم ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم رأى مُوسى قائماً يُصلي ورأى عيسى قائماً يُصلي ورأى إبراهيم قائماً يُصلي وحانت الصلاة فصلى بهم صلى الله عليه وسلّم ) ومن حديث أنس عند مُسلم ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم رأى مُوسى عند الكثيب الأحمر قائماً يُصلي) ومن الخصائص التي إختص الله بها نبينا نصاً وغيرهُ من الأنبياء إحتمالاً تبليغهم بعض طاعات الأحياء روى أبو داود والنسائي وإبن ماجه وأحمد والدارمي والحاكم وإبن خُزيمة والبيهقي من حديث أوس بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال (أكثروا من الصلاة عليَ في يوم الجمعة فإن صلاتكم معروضة عليَ) وهو حديث صحيح
ومن حديث أبي مَسعود الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال (أكثروا من الصلاة عليَ في يوم الجمعة فإنه ليس أحد يُصلي علي يوم الجمعة إلا عرضت عليَ صلاتهُ) أخرجه الحاكم والبيهقي وهو صحيح بما قبله ومن حديث أبي هريرة مرفوعاً وفيه (وصلوا عليَ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم) رواه أحمد وأبو داود والبيهقي في "حياة الأنبياء" وهو حَسن ومن حديث أبي هريرة أيضاً قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم (ما من أحد يُسلم عليَ إلا رَدَ الله روحي حتى أرُدَ عليه السلام) رواه أبو داود والبيهقي وأحمد والطبراني وهو حديث حَسن ومن حديث إبن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم (إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام) رواه النسائي وأحمد وإبن حبان والحاكم وعبد الرزاق وهو حديث صحيح.
إذن التوسل مشروعٌ ولا خلاف في الأصل عليه وإنّما الخلاف في فروعه والكيفيّات حسب ما يراه بعض أهل العلم وإجماع المسلمين على أربعة أنواع من التوسل
الأول ـ التوسل إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته .
الثاني ـ التوسل إلى الله بالأنبياء والمُرسلين كما في حديث الأعمى .
الثالث ـ التوسل إلى الله بالأولياء الصالحين كما في توسل الشافعي بأبي حنيفة .
الرابع ـ التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة كما في حديث أصحاب الغار .
هذا ما عليه إجماع المسلمين سَلفاً وخَلفاً ومن شذ عن إجماعهم شذ بهواهُ، والآية الكريمة الخاصة بإبتغاء الوسيلة مُطلقة دون تقييد ( وكل مُطلق بسكوت يسري في إطلاقــه والأصل فيه الإباحة ) والتوسل إذا كان بأحد الصالحين أمكن في سائر الصالحين وإن كانت درجات صلاحهم متفاوتة ومن فرّقَ بين الحي والميّت فقد إنحرف عن الصراط المُستقيم ( فإنّ درجتهم عند الله لا تنتهي بالموت ) بل يستمر الصلاح أو غيره مع الناس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها هذه عقيدتنا الذي أخذناها على ضوء تعاليم القرآن والسُنة والتي عليها المُسلمون في مشارق الأرضِ ومغاربها واضعين نُصب أعيُننا حبيب الله وحبيب قلوبنا السيد الأكمل الأمين سَيدنا ومولانا مُحمّد صلوات الله وسلامه عليه فمن سار على هذا الطريق فإنّه الطريق القويم ومن أبى { فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }آل عمران97.
. من كتاب مُغني السؤال عما عليه أهل الحقيقة من المعارف والأحوال في عقيدة أهل التصوف القسم الرابع عشر التوسل لمؤلفه الشيخ سيد قاسم سيد عبد النعيمي / جازاه الله تعالى عنا وعن المسلمين خير الجزاء /