نبذة من الولادة والنشأة للإمام عليه السلام :
يبدو أن قرية ( الأبواء ) الواقعة بين المدينة ومكة ، كانت تستقطب قوافل الحجاج من آل البيت أكثر من غيرها ، لأنها كانت مثوى السيدة آمنة بنت وهب .
وفي طريقهم إلى المدينة قافلين من حج بيت اللـه الحرام حطت قافلة الإمام أبي عبد اللـه الصادق عليه السلام في هذه القرية ، حيث قدم الإمام المائدة لضيوفه ، وجاءه الرسول من عند نسائه تبشره بالوليد المبارك ([1]) .
وخلال عشرين عاماً من عمره الشريف كان والده الإمام أبو عبد اللـه الصادق عليه السلام يتعهده بالرعاية ، ويشير إلى فضائله ويبين لخاصة أوليائه أنه سيد ولده ، وأنه الإمام والوارث الروحي من بعده ، وقد كان الاتباع والمحبين عن هذا الأمر لحرصهم على ربط قلوبهم وارواحهم بالوارث المحمدي المعين من قبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، والذي يبلغ عنه الامام او الشيخ الحاضر في وقته .
يروى ان احد اصحاب الامام الصادق عليه السلام دخل عليه وهو يدعو ، وعلى يمينه موسى بن جعفر يؤمِّن على دعائه ، فقال له : جعلني اللـه فداك قد عرفت انقطاعي إليك ، وخدمتي لك ، فمن وليّ الأمر بعدك ؟
قال الصادق عليه السلام : « يا عبد الرحمن إن موسى قد لبس الدرع فاستوت عليه ، فقلت له : لا أحتاج بعدها إلى شيء »([2]) .
وجاء في الحديث المأثور عن محمد بن الوليد قال : سمعت علي بن جعفر بن محمد الصادق عليه السلام يقول : سمعت أبا جعفر بن محمد عليه السلام يقول لجماعة من خاصته وأصحابه : استوصوا بموسى ابني خيراً فإنه أفضل ولدي ، ومن أخلّف من بعدي وهو القائم مقامي والحجة للـه عزّ وجلّ على كافة خلقه من بعدي ، وكان علي بن جعفر شديد التمسك بأخيه موسى، والانقطاع إليه ، والتوفر على أخذ معالم الدين منه ، وله مسائل مشهورة عنه ([3]) .
المكانة العلمية
إنّ تراث الإمام الكاظم عليه السّلام والذي زوّد به أصحابه وطلاّب مدرسته، هو من أروع ما خلّفه أئمّة المسلمين من الثروات الفكرية، ومن أنفس ما أبقاه علماء الإسلام من التراث العلميّ، فقد تناول كثيراً من العلوم: كعلم الكلام، وعلم الفقه، والتفسير والحديث.. وغيرها من العلوم، يضاف إليها حِكمُه وآراؤه القيّمة التي تناولت: آداب السلوك، وعلم التصوف والأخلاق، وقواعد الاجتماع، وهي حافلة بأروع صور الفصاحة والبلاغة. وفيما يلي عرض موجز لبعضها:
المنهج الاصلاحي
قد قام بأمر المسلمين في نطاق سياسة أبيه جعفر الصادق عليه السلام التي نزعت إلى السلم، واتجهت إلى العلم والنشاط الروحي
الساجد الأواب
إذا ذكر الامام الكاظم عليه السلام يتبادر الذهن إلى علم جم، وعبادة متواصلة، وأوراد متصلة، وصدقات كثيرة، وأخلاق عالية، وآداب رفيعة، وحلم عن المسيء، وصفح عن المذنب، فكأنه والمكارم توأم، وكأنّ المعالي ثوب خيط لهم فلبسوه.
والحديث هنا عن عبادة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام الذي شهدت له ألقابه بعبادته، فمن زين المجتهدين، إلى العبد الصالح، والنفس الزكية، والصابر، إلى غير ذلك من الألقاب المشيرة إلى صفاته المقدسة، وعبادته المتواصلة.
هكذا كان شأن الإمام عليه السلام في زهرة عمره الشريف ، حيث القي عليه الحضور القلبي مع الله تعالى ، حتى لم يكن يشعر بمن يحضر او يغادر ، يذكر ان الإمام أبو حنيفة ( رحمه الله ) دخل على أبي عبد الله الصادق عليه السلام فقال: رأيت ابنك موسى يصلي والناس يمرون بين يديه.
فقال أبو عبد الله عليه السلام : ادعوا لي موسى، فدعاه، فقال له في ذلك.
فقال: يا أبه، إن الذي كنت أصلي إليه كان أقرب إليّ منهم، يقول الله تعالى: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد). فضمه أبو عبد الله إلى نفسه ثم قال: بأبي أنت وأمي يا مودع الأسرار([4]) .
كان الإمام موسى عليه السلام ينقطع عن العالم الخارجي تماما عندما يقف بين يدي ربه ، وقد علل سبب هذا الانقطاع بأنه يشهد قرب الله تعالى منه ويراه في قلبه رأي العين للأشياء ، مؤسسا بذلك لمنهجية سلوكية خاصة تبناها كبار مشايخ التصوف الإسلامي فيما بعد ومنهم حضرة السيد الشيخ أحمد الرفاعي الكبير الذي ترجمها بقوله : « القرب : هو الانقطاع عن كل شيء سوى الله »([5]) ، وقد عبر الشيخ أبو العباس التيجاني عن حقيقة القرب بلغته الصوفية الخاصة فقال : « هو محق الغير والغيرية في الحضرة الإلهية ، فلا أين ، ولا كيف ، ولا رسم ، ولا هم ، ولا خيال ، ولا عقل ، ولا تمييز إلا الطمس والعمى حيث لم يعقل هناك إلا الله بالله لله في الله عن الله »([6]) ، وهكذا لا يشعر العابد على التحقيق بأي مخلوق يتحرك بين يديه اذا دخل في خلوته القلبية مع ربه ووقف بين يدي عظمته جل جلاله ، فالحق سبحانه وتعالى وكما يقول حضرة الشيخ الجنيد البغدادي قدس سره : « يقرب من قلوب عباده على حسب ما يرى من قرب قلوب عباده منه ، فانظر ماذا يقرب من قلبك »([7]) .
ثم ان كلمة الإمام الصادق عليه السلام قد أشار في رده الى ان هناك علاقة روحية بين سلاك طريق التقرب الى لله تعالى وبين تنزل الأسرار في قلوبهم ، وهو أمر تعرض لذكره سيدي الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره حين قال « القرب ، قرب الأسرار »([8]) ، أي قرب القلوب وما يتنزل فيها من أنوار الحق تعالى وتجلياته .
ولما كان الحق تعالى قد قال في كتابه الكريم وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ([9]) فإننا نجد ان أهل التحقيق قد اتخذوا من كثرة السجود وإطالته وسيلة لهم للوصول الى هذه الغاية العظمى والمقصد الأسنى . روى أنّ الكاظم عليه السلام دخل مسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فسجد سجدة في أول الليل، وسمع وهو يقول في سجوده: « عظم الذنب عندي فليحسن العفو عندك، يا أهل التقوى ويا أهل المغفرة » فجعل يرددها حتى أصبح([10]) ، وكان عليه السلام يصلي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح ثم يعقب حتى تطلع الشمس ويخر لله ساجداً فلا يرفع رأسه من الدعاء والتحميد حتى يقرب زوال الشمس ([11]) . ويروى أنه كان لموسى بن جعفر عليه السلام بضع عشرة سنة، كل يوم سجدة بعد ابيضاض الشمس إلى وقت الزوال ([12]) .
وتذكر بعض المصادر عن أحمد بن عبد الله الفروي عن أبيه قال: دخلت على الفضل بن الربيع وهو جالس على سطح فقال لي: أدن فدنوت حتى حاذيته، ثم قال لي: أشرف إلى البيت في الدار فأشرفت، فقال لي: ما ترى في البيت؟
قلت: ثوباً مطروحا .
قال: انظر حسناً، فتأملت ونظرت فتيقنت، فقلت: رجل ساجد.
فقال لي: تعرفه ؟
قلت: لا .
قال: هذا مولاك، قلت: ومن مولاي؟
قال: تتجاهل عليّ ؟
فقلت: ما أتجاهل ولكني لا أعرف لي مولى .
فقال: هذا أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام ، إنّي أتفقده الليل والنهار فلم أجده في وقت من الأوقات إلا على الحال التي أخبرك بها، أنه يصلي الفجر، فيعقب ساعة في دبر الصلاة إلى أن تطلع الشمس، ثم يسجد سجدة، فلا يزال ساجداً حتى تزول الشمس، وقد وكل من يترصد الزوال، فلست أدري متى يقول الغلام: قد زالت الشمس إذ يثب فيبتدئ بالصلاة من غير أن يجدد وضوءاً، فاعلم أنّه لم ينم في سجوده ولا أغفى فلا يزال كذلك إلى أن يفرغ من صلاة العصر، فإذا صلى العصر سجد سجدة فلا يزال ساجداً إلى أن تغيب الشمس، فإذا غابت الشمس وثب من سجدته فصلى المغرب من غير أن يحدث حدثاً، ولا يزال في صلاته وتعقيبه إلى أن يصلي العتمة، فإذا صلى العتمة أفطر على شوي يؤتى به، فلم يجدد الوضوء ثم يسجد ثم يرفع رأسه فينام نومة خفيفة ثم يقوم فيجدد الوضوء ثم يقوم فلا يزال يصلي في جوف الليل حتى يطلع الفجر، فلست أدري متى يقول الغلام: إنّ الفجر قد طلع إذ قد وثب هو لصلاة الفجر، فهذا دأبه منذ حُوّل إليّ.
فقلت: اتق الله ولا تحدث في أمره حدثاً يكون منه زوال النعمة، فقد تعلم أنّه لم يفعل أحد بأحد منهم سوءاً إلا كانت نعمته زائلة ([13]) .
ويذكر ايضا ان الرشيد مرّ على الحبس الذي فيه الامام عليه السلام فقال للربيع: ما ذلك الثوب الذي أراه في ذلك الموضع؟
فاخبره أنّه ليس بثوب، وإنّما هو موسى بن جعفر عليه السلام ، له كل يوم سجدة بعد طلوع الشمس إلى الزوال.
فقال: أما إنّ هذا من رهبان بني هاشم([14]) .
ولم يحدثنا التاريخ عن مسجون ـ غير الإمام موسى بن جعفر ـ كان يشكر الله تعالى على ما أتاح له من نعمة التفرغ للعبادة بين جدران السجن، ويجعل ذلك نعمة، وجب بها عليه الشكر، قال ابن الصباغ المالكي: إن شخصاً من بعض العيون التي كانت عليه في السجن، رفع إلى عيسى بن جعفر أنّه سمعه يقول في دعائه: « اللهم إنك تعلم أنّي كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك وقد فعلت، فلك الحمد »([15]) .
ان للسجود أثرا كبيرا في التقرب من الله تعالى ، لأن العبد فيه يصبح بلا ارادة ، بلا ملك ، كالتراب بين يدي ربه ولهذا يصفها شيخنا محمد الكسنزان قدس سره بأنه أكبر عبادة لأنها المقربة للخلق من الحق سبحانه ، ولقد سمعه قدس سره يقول : « اذا كان العبد حاضر القلب في صلاته ففي الركوع تغفر له ذنوبه وبهذا يتأهل للتقرب الى الله تعالى في السجود »([16]) .
قارئ القرآن كثير الأوراد
كان عليه السلام أحسن الناس صوتاً بالقرآن، فكان إذا قرأ يحزن ويبكي، ويبكي السامعون لتلاوته، وكان يبكي من خشية الله حتى تخضل لحيته بالدموع ([17]) .
وقال إبراهيم بن أبي البلاد: قال لي أبو الحسن عليه السلام : إنّي أستغفر الله كل يوم خمسة آلاف مرة ([18]) .
الطريقة الصوفية عند الإمام موسى الكاظم عليه السلام
أثر القلب على العمل :
من وصايا الإمام الكاظم عليه السلام في التربية والإرشاد انه عليه السلام كان يقول : « كيف يزكو عند الله عملك وأنت قد شَغلتَ قلبَك عن أمر ربك »([19]) ، وفي هذا اشارة من حضرة الإمام عليه السلام الى العلاقة بين صفاء القلب وعدم انشغاله عن الرب وبين طهارة الأعمال وقبولها عند الله تعالى ، المسألة التي تتبناها جميع المدارس الصوفية في العالم الإسلامي ، فليس المهم كثرة الاعمال اذا لم تكون مقرونة بالاخلاص وصدق توجيهها الى الله تعالى ، فالاعمال كما قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالنيات ، ولكل امرء من اعماله على قدر نواياه ، والامام عليه السلام هنا يركز على هذه النقطة وكأنه يقول للمريد : اذا اردت زكاة اعمالك أي طهارتها ونماءها فعليك ان تستحضر الله تعالى في قلبك أثناء أداءها ، وهو درس مهم لتفعيل دور القلب في الحياة الإسلامية .
أثر العقل عن الله تعالى :
قال حضرته عليه السلام : « مَن عَقَل عن الله اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها، ورغب فيما عند الله، وكان الله آنِسَه في الوحشة، وصاحِبَه في الوحدة، وغناه في العيلة، ومُعزَّه في غير عشيرة »([20]) .
العقل عن الله هو ما قال به أهل الطريقة من تلقي العلوم اللدنية والمشاهدات الكشفية ، وقد ذكر الامام عليه السلام شيئا من الأحوال التي تلازم اصحاب الكشف والشهود ومنها أنهم يعتزلون الدنيا ومباهجها ، ولا يأنسون الا بالله تعالى وكل ما يحضر قلوبهم في حضيرة ذكره .. فهم وكما يصفهم الامام عليه السلام قد رضوا « بالدُّون من الدنيا مع الحكمة، ولم يرضوا بالدون من الحكمة مع الدنيا؛ فلذلك ربحت تجارتهم » وفي هذا إشارة لطيفة من حضرته الى ان علم القلوب او علم التصوف هو من الحكمة التي قال تعالى عنها : وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ([21]) .
الزهد في الدنيا :
يصف حضرة الإمام عليه السلام السالكين طريق الحق تعالى فيقول هم الذين « تركوا فضول الدنيا، فكيف الذنوب ؟! » وبين حضرته الأسباب التي دعتهم الى ذلك ومنها أن احدهم « نظر إلى الدنيا وإلى أهلها فعلم أنّها لا تُنال إلا بالمشقّة، ونظر إلى الآخرة فعلم أنّها لا تُنال إلاّ بالمشقة، فطلب بالمشقة أبقاهما » .
وكذلك هم « زهِدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة؛ لأنهم علموا أنّ الدنيا طالبة ومطلوبة، والآخرة طالبة ومطلوبة، فمَن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتّى يستوفيَ منها رزقَه، ومَن طلب الدنيا طلبتْه الآخرة فيأتيه الموت فيُفسد عليه دنياه وآخرته»([22]) . وهي كلمات عظيمة لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ([23]) لأنها تفتح مداركه الباطنة على ما وراء الجانب الحسي في الحياة ، وتعطيها الأولوية في الطلب والإرادة لبقائها الأبدي . وعلى نهج سيدنا الكاظم عليه السلام نسمع شيخنا محمد الكسنزان قدس سره يعظ مريدي الطريقة الكسنزانية ويذكرهم بهذه الحقيقة بعبارة يرددها دائما على مسامع الجميع : « الدنيا هاربة لطالبها طالبة لهاربها » .
ويصف الإمام الكاظم عليه السلام الدنيا بأنها « مثل الدنيا مثل ماء البحر ، كلما شرب منه العطشان ازداد عطشاً حتى يقتله »([24]) .
ومن أروع الحكم الكاظمية في التزهيد بالدنيا والترهيب من الآخرة قوله عليه السلام حينما وقف على قبر : « إن شيئاً هذا آخره لحقيق أن يزهد في أوله ، وأن شيئاً هذا أوله لحقيق أن يخاف من آخره »([25]) .
الصحبة وأثرها :
نقل حضرة الامام موسى الكاظم عليه السلام عن جده السجاد عليه السلام قوله : « مجالسة الصالحين داعية إلى الصلاح »([26]) وهو باب توسعت فيه الطرق الصوفية لأهميته القصوى في بناء الحياة الروحية السليمة عند المسلم ، يقول حضرة السيد الشيخ احمد الرفاعي الكبير قدس سره : « أوصيكم كل الوصية بعد علم واجبات الدين بصحبتهم [ الأولياء ] ، فإنها ترياق مجرب . عندهم رأس الأمر كله ، عندهم الصدق والصفاء ..التجرد إلى المولى ... هذه الخصال لا تحصل بالقراءة والدرس والمجالس ، لا تحصل إلا بصحبة الشيخ العارف الذي يجمع بين الحال والمقال ، يدل بمقاله ، وينهض بحاله »([27])
علم المعرفة :
قال الإمام موسى الكاظم عليه السلام : « لو يعلم الناس ما في فضل معرفة الله عز وجل ما مدوا أعينهم إلى ما متع إليه به الأعداء من زهرة هذه الحياة الدنيا ونعيمها ، وكانت دنياهم أقل عندهم مما يطؤونه بأرجلهم ، ولنعموا بمعرفة الله - عز وجل - وتلذذوا بها تلذذ من لم يزل في روضات الجنات … إن معرفة الله - عز وجل - أنس من كل وحشة ، وصاحب من كل وحدة ، ونور من كل ظلمة ، وقوة من كل ضعف ، وشفاء من كل سقم »([28]) .
وبهذا يرغب الامام عليه السلام الناس في سلوك طريق العارفين ، ويدق على ابواب قلوبهم بلمحات النعيم المقيم ، مشجعا لهم على اختيار هذا الطريق والسير الواصلين ، وهذا القول من الامام عليه السلام ، وقد توارث الصوفية هذا المدخل في جذب الناس الى طريق الحق تعالى ، فهذا الشيخ أبو يزيد البسطامي يقول « حلاوة المعرفة الإلهية خير من جنة الفردوس وأعلى عليين »([29]) ، محالا بذلك الارتقاء بهمم السالكين من الرغبة بالجنة وهي مخلوق الى خالقها العظيم ، مؤكدا على ان نعيم وحلاوة معرفة الله تعالى تفوق حلاوة الفردوس في اعلى عليين ، وكما قال الصوفية : من ذاق عرف ، ومن عرف ذاق ، فجاء الشيخ احمد بن علوان ليتوسع في بيان المراد بجنة المعرفة فقال : « في بستان المعرفة خمسة أنهار : الربوبية ، ونهر المهيمنة ، ونهر اللالا ، ونهر النعمة ([30]) ، فإذا سقي العارف بنهر الربوبية صار محباً ، وإذا سقي بنهر المهيمنة صار مشتاقاً ، وإذا سقي بنهر اللالا ([31]) صار منيباً ، وإذا سقي بنهر النعمة صار ذاكراً للمنة والسخاوة … جعل الله ينبوع هذه الأنهار في عالم الغيب مجراها في قلب العارف »([32]) .
حدّث الإمام الكاظم عليه السلام أصحابه عمّا ينبغي عليهم أن يعرفوه، فقال لهم: « وجدتُ علمَ الناس في أربع:
أوّلها : أن تعرف ربَّك.
والثانية : أن تعرف ما صَنعَ بك .
والثالثة : أن تعرف ما أراد منك .
والرابعة : أن تعرف ما يُخرِجك مِن دِينك »([33]) .
صفات المريد :
تطرق الامام الكاظم عليه السلام الى صفات المؤمن الذي يريد وجه الله تعالى فقال : هو من « له قوة في دين ، وحزم في لين ، وإيمان في يقين ، وحرص في فقه ، ونشاط في هدى ، وبر في استقامة ، وعلم في حلم ، وكيّس في رفق ، وسخاء في حق ، وقصد في غنى ، وتجمل في فاقة ، وعفو في مقدرة ، وطاعة الله في نصيحة ، وانتهاء في شهوة ، وورع في رغبة ، وحرص في جهاد ، وصلاة في شغل ، وصبر في شدة ، في الهزائز وقور ، وفي الرخاء شكور ، لا يغتاب ، ولا يتكبر ، ولا يقطع الرحم ، وليس براهن ، ولا فظ ، ولا غيظ ، ولا يسبقه بصره ، ولا يفضحه بطنه ، ولا يغلبه فرجه ، ولا يحسد الناس ، ولا يُعَيِّر، ولا يُعَيَّر ، ولا يسرق ، ينصر المظلوم ، ويرحم المسكين ، نفسه منه في عناء والناس منه في راحة ، لا يرغب في عز الدنيا ، ولا يجزع من ذلها ، للناس همٌّ قد أقبلوا عليه ، وله هم قد شغله ، لا يُرى في حكمه نقص ، ولا في رأيه وهن ، ولا في دينه ضياع ، يرشد من استشاره ، ويساعد من ساعده »([34]) ، وجميع هذه الصفات مما تخصص أهل الطريقة في بيان أصوله وفروعه ووضعوا المناهج المتعددة للوصول بالمريد الى هذه المراتب من الخلق العظيم التي تحلق بالمؤمن على الصراط المستقيم .
زكاة الجسد :
كل أمام او شيخ طريقة له اجتهاداته الخاصة فيما يتعلق بالجانب الروحي في الإسلامي والذي يستند أساسا على اثبات الظاهر والتوسع في فهم ما وراء ذلك ، ومن ذلك فهم أهل الطريقة الخاص للجانب الروحي للزكاة مثلا ، فهم لم يقفوا عن حد اثباتها في المال اذا بلغ النصاب ، وانما توسعوا فيها فرأوا انها يمكن ان تكون للأعمال والأبدان والنفوس والقلوب بل وكل شيء كما يقول الإمام الكاظم عليه السلام . والاختلاف في هذه الاجتهادات لا يدل على التعارض او التناقض بل على سعة الجانب الروحي الذي يتسع لجميع الآراء والاستنباطات الصوفية .
فعلى سبيل المثال ان الإمام الكاظم عليه السلام يرى ان « لكل شيء زكاة ، وزكاة الجسد : صيام النوافل »([35]) بينما كان والده الإمام الصادق عليه السلام يرى ان زكاة الأبدان العلل ([36]) .
حكمة الصمت:
قال حضرته عليه السلام : « قلة المنطق حكمة عظيمة . فعليكم بالصمت ، فإنه دعة حسنة ، وقلة وزر ، وخفة من الذنوب »([37]) ، وهي مقولة تتطابق تماما مع ما تعارف عليه الصوفية على اختلاف مشاربهم في هذا الأمر ، فاذا كان قلة المنطق حكمة عظيمة عند الامام الكاظم عليه السلام ، فعند الشيخ ابن عربي قدس سره « الحكمة في الصمت »([38]) ، وعند النفري « الصمت شاهد التثبيت والتأييد »([39]) ، وهكذا عدّو « من لم يكن الصمت وطنه فهو في فضول ، وإن كان ساكناً »([40]) .
مقام التوكل :
يرى الإمام موسى الكاظم عليه السلام ان « التوكل على درجات ، ومنها : أن تتوكل عليه في أمورك كلها ، فما فعل بك - عز وجل - كنت عنه راضيا . تعلم أنه لا يألوك إلا خيرا وفضلا ، وتعلم أن الحكم في ذلك إليه ، وتثق به فيها وفي غيرها »([41]) .
قالوا في الإمام عليه السلام
● قال صاحب كتاب صفة الصفوة : « موسى بن جعفر بن محمد بن علي
ابن الحسين بن علي أبو الحسن الهاشمي عليهم السلام. كان يدعى العبد الصالح لأجل عبادته واجتهاده وقيامه بالليل وكان كريما حليما إذا بلغه عن رجل انه يؤذيه بعث إليه بمال »([42]) .
● يقول الإمام الشافعي - رضي الله عنه - : قبر موسى الكاظم - عليه السلام - الترياق المجرب ([43]) .
● يقول أبو علي الخلال شيخ الحنابلة وعميدهم الروحي - رضي الله عنه - : ما همني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر إلا سهل الله تعالى لي ما أحب([44]) .
التحذير من قطاع الطريق
قال الإمام موسى الكاظم عليه السلام : « أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام قل لعبادي : لا يجعلوا بيني وبينهم عالماً مفتوناً بالدنيا فيصدهم عن ذكري ، وعن طريق محبتي ومناجاتي ، أولئك قطاع الطريق من عبادي ، إن أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة محبتي ومناجاتي من قلوبهم »([45]) .
من مكاشفات الإمام عليه السلام وكراماته
● وعن شقيق بن إبراهيم البلخي قال خرجت حاجا فنزلت القادسية فبينا أنا انظر إلى الناس في زينتهم وكثرتهم فنظرت إلى فتى حسن الوجه يعلو فوق ثيابه ثوب من صوف مشتمل بشملة وقد جلس منفردا فقلت في نفسي : هذا الفتى يريد أن يكون كلا على الناس في طريقهم ، والله لأمضين إليه ولأوبخنه فدنوت منه فلما راني مقبلا قال : يا شقيق اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض إثم ، ثم تركني ومضى فقلت في نفسي : إن هذا لأمر عظيم قد تكلم على ما في نفسي ونطق باسمي وما هذا إلا عبد صالح لألحقنه ولأسلنه أن يحالني فأسرعت في إثره فلم ألحقه وغاب عن عيني فلما نزلنا واقصة إذا به يصلي وأعضاؤه تضطرب ودموعه تجري فقلت : هذا صاحب امضي إليه واستحله فصبرت حتى جلس وأقبلت نحوه فلما راني مقبلا قال : يا شقيق اتل وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ، ثم تركني ومضى فقلت إن هذا الفتى لمن الإبدال وقد تكلم على سري مرتين فلما نزلنا رمالا إذا بالفتى قائم على البئر وبيده ركوة يريد أن يستقي ماء فسقطت الركوة من يده في البئر وأنا انظر إليه فرأيت قد رمق السماء وسمعته يقول:
أنت ربي إذا ظمئت من الماء وقوتي إذا أردت الطعاما
اللهم سيدي مالي سواها فلا تعدمنيها
قال شقيق : فوالله لقد رأيت البئر قد ارتفع ماؤها فمد يده فاخذ الركوة وملاها ماء وتوضأ وصلى أربع ركعات ثم مال إلى كثيب رمل فجعل يقبض بيده ويطرحه في الركوة ويحركه ويشرب فأقبلت إليه وسلمت عليه فرد علي السلام فقلت أطعمني من فضل ما أنعم الله به عليك.
فقال : يا شقيق لم تزل نعمة الله علينا ظاهرة وباطنة فأحسن ظنك بربك ثم ناولني الركوة فشربت منها فإذا سويق وسكر فوالله ما شربت قط ألذ منه ولا أطيب ريحا منه فشبعت ورويت فاقمت أياما لا اشتهي طعاما ولا شرابا ثم لم أره حتى دخلنا مكة فرايته ليلة إلى جنب قبة الشراب في نصف الليل يصلي بخشوع وانين وبكاء فلم يزل كذلك حتى ذهب الليل فلما رأى الفجر جلس في مصلاه يسبح الله ثم قام فصلى الغداة وطاف بالبيت أسبوعا وخرج فتبعته فإذا له حاشية وموال وهو على خلاف ما رايته في الطريق ودار به الناس من حوله يسلمون عليه فقلت لبعض من رايته يقرب منه من هذا الفتى فقال : هذا موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام فقلت قد عجبت أن تكون هذه العجائب إلا لمثل هذا السيد([46]) .
● يقول الشيخ يوسف النبهان : « حبس الرشيد الإمام موسى الكاظم - عليه السلام - في زمنه ، فرأى في المنام عبداً حبشياً ومعه حربة ، فقال له : إن خليت عن موسى بن جعفر - عليه السلام - الساعة وإلا نحرتك بهذه ، فاذهب فخل عنه ، فنهض مرعوباً ، وأمر رئيس شرطته بإطلاق سراحه ويخيره بين البقاء أو المقام ، فلما قدم عليه رئيس الشرطة فأطلق سراحه وهو متعجب من حاله .
فقال له الإمام : لا تعجب ، فقد أتاني رسول الله فقال لي : يا موسى ، حبست مظلوماً ، فادع بهذه الكلمات فإنك لا تبيت هذه الليلة في الحبس ، ( يا سامع كل صوت ، ويا سائق القوت ويا كاسي العظام لحماً و منشرها بعد الموت ، أسألك بأسمائك الحسنى وباسمك الأعظم الأكبر المخزون المكنون الذي لم يطلع أحد من المخلوقين ، يا حليماً ذا أناة لا يقوى على أناته ، يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبداً ولا يحصى عدداً ، فرج عني ) فكان ماترى »([47]) .
تأثير الكاظم عليه السلام في القلوب
( بشر الحافي نموذجا )
مما يتميز به الوارث الروحي المحمدي أن له كلمات نورانية اذا أطلقها فان سهمها لا يخطي القلب ، وأن تأثيرها الرباني لينور القلب ويشرح الصدر الى الهدى والتقى ..
يذكر ان في عصر الإمام الكاظم عليه السلام كان يعيش في بغداد رجل معروف يقال له بشر. وكان ممن يشار إليه بالبنان، وحدث يوماً أن كان الإمام الكاظم عليه السلام ، ماراً من أمام بيت بشر، وكانت أصوات اللهو والطرب تملأ المكان وتوافق أن فتحت جارية باب الدار لإلقاء بعض الفضلات، وحين رمت بها في الطريق سألها الإمام ? قائلاً: " يا جارية! هل صاحب هذه الدار حر أم عبد "؟!
فأجابته الجارية وهي مستغربة سؤاله : بل هو حر!!
فقال الإمام عليه السلام : « صدقت لو كان عبداً لخاف من مولاه »
الإمام قال هذه الكلمة وانصرف . فعادت الجارية إلى الدار وكان بشر جالساً إلى مائدته ، فسألها: ما الذي أبطأك ؟ فنقلت له ما دار بينها وبين الإمام، وعندما سمع ما نقلته من قول الإمام : « صدقت، لو كان عبداً لخاف من مولاه »
اهتز هزة عنيفاً أيقظته من غفلته، وأيقظته من نومته، نومة الغفلة عن الله. ثم سأل بشر الجارية عن الوجهة التي توجه إليها الإمام، فأخبرته فانطلق يعدو خلفه، حتى أنَّه نسي أن ينتعل حذاءه، وكان في الطريق يحدث نفسه بأن هذا الرجل هو الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ، وفعلاً ذهب إلى منزل الإمام، فتاب على يده واعتذر وبكى ثم هوى على يدي الإمام يقبلها وهو يقول: سيدي أريد من هذه الساعة أن أصبح عبداً ولكن عبداً لله، لا أريد هذه الحرية المذلة التي تأسر الإنسانية فيّ ، لا أريد حرية السعي وراء الجاه والمنصب، لا أريد حرية الخوض في مستنقع الذنوب واغدوا أسيراً لها. لا أريد أن تؤسر فيّ الفطرة السليمة . من هذه الساعة أريد أن أصبح عبداً لله ولله وحده، حراً تجاه غيره.
ومنذ تلك اللحظة هجر الذنوب ونأى عنها وأتلف كل وسائل الحرام، وأقبل على الطاعة والعبادة
الهوامش:-
[1] - راجع موسوعة بحار الأنوار : ( ج 48 ، ص 4 ) وأيضاً كتاب المحاسن للبرقي : (ج 2 ، ص 418) .
[2] - موسوعة البحار : ( ج 48 ، ص 6 ) .
[3] - موسوعة البحار : ( ج 48 ، ص 8 )
[4] - (المناقب 2/372)
[5] - الشيخ أحمد الرفاعي – البرهان المؤيد – ص 70 .
[6] - الشيخ على حرازم ابن العربي – جواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض سيدي أبي العباس التجاني – ج 2 ص 275 ( بتصرف ).
[7] - الشيخ عبد الله اليافعي – نشر المحاسن الغالية – ص 198 .
[8] - الشيخ عبد القادر الكيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص 41 0
[9] - العلق : 19 .
[10] - (تاريخ بغداد 13/27)
[11] - (كشف الغمة: 247)
[12] - (المناقب 2/379)
[13] - (أمالي الصدوق: 127)
[14] - (أعيان الشيعة 4 ق3/42)
[15] - (الفصول المهمة: 222)
[16]
[17] - (المناقب 2/379)
[18] - (بحار الأنوار 11/267)
[19]
[20]
[21] - البقرة : 169 .
[22]
[23] - ق : 37 .
[24] - وهاب رزاق شريف - لمحات من سيرة الإمام موسى الكاظم - ص 33 .
[25] - أحمد كاظم البهادلي - من هدي النبي والعترة في تهذيب النفس وآداب العشرة ( القسم الأول ) - ص 142 .
[26]
[27] الشيخ أحمد الرفاعي – البرهان المؤيد ص 64 – 65 .
[28] - - وهاب رزاق شريف - لمحات من سيرة الإمام موسى الكاظم - ص 13 - 14 .
[29] - الشيخ إسماعيل حقي البروسوي – تفسير روح البيان – ج 8 ص 508 .
[30] - لم يذكر المؤلف النهر الخامس
[31] - كذا في الأصل
[32] - الشيخ أحمد بن علوان – مخطوطة عزيز مظهر لكل سر عجيب لكل عارف لبيب - ص 5 .
[33] - بحار الانوار –المجلسي – ص 78 : 328
[34] - وهاب رزاق شريف - لمحات من سيرة الإمام الكاظم - عليه السلام - - ص 10 - 11 .
[35] - وهاب رزاق شريف - لمحات من سيرة الإمام موسى الكاظم - ص 23 .
[36] - رمضان لاوند – الإمام الصادق علم وعقيدة - ص 139 .
[37] - وهاب رزاق شريف - لمحات من سيرة الإمام موسى الكاظم - ص 31 - 32 .
[38] - الشيخ ابن عربي – مخطوطة نبذة لطيفة وكلمات طريفة – ص 35 .
[39] - بولس نويا اليسوعي - نصوص صوفية غير منشورة ، لشقيق البلخي – ابن عطاء الادمي – النفري – ص 301 .
[40] - الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي – طبقات الصوفية – ص 474 .
[41] - - الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي - المقدمة في التصوف وحقيقته - ص 30 - 31 .
[42] - صفة الصفوة - (ج 1 / ص 217)
[43] - - وهاب رزاق شريف - لمحات من سيرة الإمام الكاظم - عليه السلام - وموقفه من الشعوبية - ص 9
[44] - وهاب رزاق شريف - لمحات من سيرة الإمام الكاظم - عليه السلام - وموقفه من الشعوبية - ص 9
[45] - - وهاب رزاق شريف - لمحات من سيرة الإمام موسى الكاظم - ص 34 - 35 .
[46] صفة الصفوة - (ج 1 / ص 218)
[47] - ابن خلكان - وفيات الاعيان -ج4 - ص393