سيدي أحمد الرفاعي رضي الله تعالى عنه
هو أحمد محي الدين أبو العباس المعروف بالرفاعي الواسطي دفين أم عَبيدة، قرب واسط بها قبر السيد أحمد الرفاعي، والرفاعي نسبةً إلى واحد من أجداده إسمه رفاعة، وهو جدُّه السابع وإسمهُ الحسن ولكن غَلبَ عليه لقب رفاعة، وقدهاجر جدُّه من مكة لما غلب الجور على الأشراف، ونزل المغرب، وعلا أمره وإنتشر صيته، وعمَّت بركته وكثُرت ذريَّته، وبقي نسله بالمغرب إلى زمن السيد يحيى جدِّ السيد أحمد الكبير(الذي هاجر إلى مكة ومنها إلى البصرة، فتزوَّج بنت أبي سعيد النجاري الأنصاري، فأنجب السيد علي والد السيد أحمد فنشأ السيد علي في بيت العلم وقرأ القرآن حفظاً وتجويدا، وتلقَّى العلوم الشرعية عن إمام وقته الشيخ يحيى النجاري الأصلي، وبرع وإشتهر ورمقته أبصار رجال عصره بالتعظيم وشهد له الشيوخ الأكابر بالسلطنة في مقام الولاية، وتزوَّج بالأصيلة المعمِّرة السيدة فاطمة النجارية الأنصارية فأنجب منها سيِّد العارفين ذي المدد الرحماني السيد أحمد الرفاعي.
نسبه الشريف
قال السيد محمد أبو الهدى الرفاعي (هو السيد أحمد بن أبي الحسن علي بن يحيى بن ثابت بن الحازم بن يحيى بن علي بن الحسن الملقَّب برفاعة المكي بن المهدي بن أبي القاسم محمد بن الحسن بن الحسين بن موسى الثاني بن إبراهيم المرتضى بن الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام زين العا بدين علي بن الإمام المشهور زبدة السادة الأئمة وعمدة قائد الأمة الذي اُمتحن بأنواع المحن والبلاء أمير المؤمنين أبي عبد الله الحسين الشهيد بكربلاء بن الإمام الأكبر صاحب المناقب والمفاخر الكبرى الإمام أبي الحسن علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه.) والمعلوم أنَّ أصحاب هذا النسب الطاهر هم أعيان الخلق في الباطن والظاهر وما أحسن قولَ الشاعر فيهم:
يا أيُّها الرجلُ المحمِّلُ رحلَه هلا نزلتَ بـآلِ عبدِ منافِ
هبلتك أمُّك لو نزلتَ برحلِهم منعوك من عُدمٍ ومن إقراف
الخالطين غنيَّهم بفقــيرهم حتى يعـودَ فقيرهم كالكافي
وقد شفع هذه النسبة باتباعه لسنَّة المصطفى فجمع بين القرابتين الصورية والمعنوية ، والطينية والدينية.
ذكر السيد فخر الدين أبو بكر العيدروس رضي الله عنه في كتابه النجم الساعي >أنَّ القطب الرباني سيدنا عبد القادر الجيلاني قدَّس الله سرَّه ورضي عنه كان عند السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه فوقع في خاطره أثناء المصاحبة سؤالٌ من السيد أحمد الرفاعي فسأله قائلا: يا سيِّدي أنتم من ولد الرسول ونسبُكم هاشمي فلأيِّ شيء وصفتم بالرفاعي؟ فقال السيد الكبير رضي الله عنه: نسبة إلى جدي علي بن رفاعة من أبناء الإمام علي كرَّم الله وجهه فالحمد لله. وقال رجل موصلي للشيخ عبد الرحمن الحدادي رضي الله عنه: يا سيِّدي إني رأيت بعض كتب التاريخ ذكر نسبة الشيخ عبد القادر الجيلاني وسكت عن نسبة السيد الرفاعي مع أنه عربي الأصل، وقد قال بعض علماء فارس أن الشيخ عبد القادر فارسيُّ النسب فقال الشيخ رضي الله عنه:اكفف يا ولدي عن الخوض واعلم أن من كَتَبَ التاريخَ سكت عن نسبة الاثنين إلا أنَّ بعض الصوفيَّة ذكر نسبة الشيخ عبد القادر حرصاً عليه لكيلا يَطعن في نسبه من لا علم له، لما اشتهر عنه أنه من العجم، وهو رجل فاطميٌّ لا شكَّ في نسبته إلى الجدِّ الأعظم رسول الله ، سكن أجداده فارس إلى زمانه رضي الله عنه، وأما نسبة السيد أحمد الرفاعي إلى العترة النبوية الشريفة فهي ثابتة.
وليس يصحُّ في الأذهانِ شيءٌ إذا احتاجَ النهارُ إلى دليلِ
مولده رضي الله عنه
ولد رضي الله عنه يوم الخميس في النصف الأول من شهر رجب عام 215 من الهجرة النبوية،جاء في كتاب الطبقات للشيخ الشعراني وترياق المحبين للشيخ تقيّ الدين وغيرهما من الكتب المباركة: أن الشيخ منصور البطايحي قدس الله سرَّه رأى رسول الله في المنام وهو يقول له: أبشِّرك يا منصور أن الله يهب أختك بعد أربعين يوما ولداً يُسمى أحمد الرفاعي، مثلما أنا رأس الأنبياء يكون هو رأس الأولياء، وحين يكبر فخذه وإذهب به إلى الشيخ علي القاري الواسطي، وأعطه له كي يربيه، فإن هذا الرجل عزيز عند الله، ولا تغفل عنه.قلت: الأمر أمركم يا رسول الله عليك الصلاة والسلام، فكان الأمر كما قال. وروي عن الشيخ أبي بكر الهمداني أن رجالاً سألوه عن السيد أحمد الرفاعي، فأخبر ثم بشَّر بما يكون على يد سيدي أحمد من البيِّنات والأحوال فقال: ما أقول في رجل يخرج من موش المزابل رجالاً لا يعلمهم إلا الله تعالى، تتحيَّر فيهم العقول والألباب ! فقالوا له: ما هو موش المزابل؟ فقال لهم: منهم شارب الخمر، وقاطع الطريق، وقاتل النفس وفاسق يتوبون على يديه، فيغيِّر صفاتِهم ويصلح أمورهم ويخرج منهم رجالاً صالحين.
وشبَّ رضي الله عنه على أحسن حال، حتى أنه كان في حالة صغره لا يجلس مع الصبيان إلا قليلاً، ويألف مجالس الشيوخ، ومحافل القرآن والدروس ويتلقَّى عن العارفين، ويعمل بنصائحهم ولا يفارقهم، وقد شَهِد له أكابر الرجال وهو صغير بالولاية الكبرى. قرأ القرآن وهو صبيٌّ على الشيخ العارف علي بن القاريء الواسطي فصنع شخص طعاماً ودعا إليه الشيخ وأصحابه وجماعة من المشايخ وكان معهم مُغني فشرع ينشدهم بدفٍّ في يديه فلما طرب القوم وتواجدوا قام السيد أحمد الرفاعي إلى المُغني وكسر الدف، فإلتفت المشايخ إلى الشيخ علي بن القاريء وقالوا له: هذا صبيٌّ صغير ما لنا معه مطالبة والمطالبة عليك، فقال لهم الشيخ إبن القاري: إسألوه فإن أتى بالجواب وإلا عليَّ المطالبة. فالتفتوا إليه وقالوا له: لم كسرت الدف؟ فقال لهم: إسألوا المُغني يخبركم بما خطر بباله. فاتَّبعوا المُغني وسألوه عما خطر بباله وهو يُغني، فقال لهم: إني كنت البارحة عند قوم يشربون فسكروا وتمايلوا كتمايل هؤلاء المشايخ، فخطر أن هؤلاء كأولئك، فلم يتمَّ خاطري حتى قام هذا الصبي وكسر الدف. فعند ذلك نهض المشايخ إلى سيدي أحمد الرفاعي وقبَّلوا يديه.
وذكر تقي الدين الواسطي في كتابه ترياق المحبين أن مما أكرم الله به سيدي أحمد أنه كان مرة واقفاً بين الصبيان في حال صغره فمرَّ به جماعة من الفقراء العارفين، فلما رأوه ساعة وقفوا ينظرون إليه ساعة ثمَّ قال أحدهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله ظهرت هذه الشجرة المباركة.، وقال الثاني: عن قليلٍ تتفرع.وقال الثالث: عن قليل يشمل ظلها ويعمُّ نفعها. قال الرابع: عن قليل يكثر ثمرها ويُشرق قمرها.قال الخامس: عن قليلٍ يرى الناس منها العجب. قال السادس: عن قليلٍ يعلو شأنها ويظهر برهانها.قال السابع: كم يغلق لها باب، ويظهر لها أصحاب. والسيد أحمد رضي الله عنه يسمع كلامهم ولا يدري لمن يشيرون.، ثم إنصرفوا وهم متحيِّرون.وقال الإمام الهمام قاسم بن الحاج في كتابه إمُّ البراهين : أن الشيخ منصور البطايحي الرباني رضي الله عنه لما أخذته الغيرة حالة إطلاعه على مقام السيد أحمد الرفاعي وهو لا يزال تلميذه نودي في سرِّه: يا منصور تأدَّب معه هذا السيد أحمد حبيبنا، نظهره على غوامض غيوبنا، يا منصور هذا السيد أحمد نائب الدولة المُحمدية، وعروس المملكة المصطفوية، وهو شيخ جميع الأمة وشيخك فقل نعم، قلت: نعم، فقال: نحن نتصرَّف بمُلكنا كما نشاء، فقلت: نعم نعم، ثم قمتُ فأخذتُ العهد على يديه فأنا شيخه بالخرقة وهو شيخي بالخلق والخلفة.
وكان السيد منصور الرباني خال السيِّد أحمد في زمانه شيخ شيوخ جميع عصره وبصحبته تَخَرَّج السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه و شرب كأسه وتربى بتربيته ولبس خرقته وخلفه في مشيخة الشيوخ. وقيل بعد ذلك مرض الشيخ منصور رضي الله عنه مرض الوفاة فطال مرضه، وأيقن أصحابه وخواصُّه من أهل الكشف بدنوِّ أجله فصاروا يقولون: من يكون بعد الشيخ منصور؟ وكلٌّ منهم يقول أنا، وكان بينهم فقير أشعث أغبر لا يُعبأ به، وهو منكوس الرأس،فلما طال بينهم الجدال، وكثر المقال، رفع رأسه ذلك الفقير وقال: لقد قلتم فأكثرتم، وها أنا مُخبركم بمن يكون بعد الشيخ، قالوا: هات فأخبرنا إن كان عندك خبرٌ أو علم، فقال لهم: يكون بعده الشيخ أحمد الرفاعي، فقالوا له: نريد الدليل على صحة قولك، فقال: بيني وبينكم الشيخ منصور، فدخلوا عليه وسلَّموا وهو مغشيٌّ عليه، فأخبروه بما قال لهم الفقير وكان يسمى إبن مريم فقال السيد منصور: القول ما قاله إبن مريم.قيل ولما أراد الشيخ منصور أن يجعل سيِّدنا أحمد الرفاعي خليفة له قالت زوجته وولداه وبعض محبيه: إنَّ ميراث الأب لا يكون إلا للإبن ولا يكون لإبن الأخت، فقال لهم الشيخ: إني رأيت شيئا وإن شئتم أريته لكم، فقالوا له: أرِنا،، فجمع الشيخ منصور أولاده وأحبابه، وأعطى لكلِّ واحد من ولديه سكيناً ودجاجة، وأعطى لسيِّدي أحمد كذلك سكيناً ودجاجة، وقال كلٌّ منكم يذهب بسكينه ودجاجته إلى مكان خال، ما فيه أحد ويذبح دجاجته فيه،ويأتيني بها مذبوحة، فراح كلٌّ منهم إلى جبل وذبح دجاجته وجاء بها مذبوحة، إلا سيِّدي أحمد فجاء بدجاجته حيَّة،قال له: يا أحمد لأي شيء جئت بها بلا ذبح؟ فقال: يا سيِّدي شرطتم عليَّ خلوَّ المكان وكلُّ مكان ذهبت إليه وجدته مشغولا بالله تعالى وهو حاضر ناظر، وما رأيت مكانا خالياً قط ! فقال سيدنا منصور رضي الله تعالى عنه: أنتم تريدون لمحبوبيكم والله يريد لمحبوبه.ثم ألحوا عليه مرة ثانية فأعطى رضي الله عنه كلّ واحد منهم منجلا من حديد وقال لهم: إذهبوا وهاتوا لي نجيلاً من حشيش الغيط، فراح كلُّ واحد من أولاد الشيخ وحصد كلُّ واحد حملاً وجاء به، إلا سيِّدي أحمد فإنه جاء خالياً، فقال له: يا أحمد لم جئت خالياً؟ قال: إني كلَّما أمسكت الحشيش وجدته يذكر الله تعالى فما حصدته حرمة لتسبيحه لله، فقال لهم السيد منصور: أما ظهر لكم أن عناية الحق مع سيِّدي أحمد؟ فقالوا: بلى، فقال لهم: والله وجِّهوا وجهة العبودية إلى محبته، وأظهروا الخدمة والملازمة في فناء عتبته، فإنه سيشيع إسمهُ ورسمهُ في آفاق الدنيا، ويظهر أمره في الأرض والسماء. فمن ذلك اليوم شاعت أخباره في العالم وفشت أسراره، وسار إليه الناس من البلاد والأقطار وعمَّتهم بركته.ولما أراد الله إظهار أمره في إم عبيدة في القرية السعيدة إستمر سنة يُحيي فيها الليالي ويقري الضيف والوارد، ويردُّ الله على يديه الشارد، لا ينطق بحرف، قيل ولما ظهر فضل سيِّدي أحمد الرفاعي رضي الله عنه وفاح طيبه، كان يتردد إلى أبواب الصالحين، ويتبرَّك بهم، ويتواضعُ لهم ويذكر فضلهم، ويظهر ذكرهم ويعظِّم شأنهم، وكان يكثر التردد إلى زيارة سيِّدي عبد الملك الخرنوبي قدَّس الله روحه، وكان يزوره في كلِّ سنةٍ مرة، فإذا قضى وطره منه وأراد الخروج يسأله الدعاء والوصيَّة، فلما كان في بعض السنين سأله الوصية بعد ما قضى وطره وأراد الخروج، فقال له: يا أحمد إحفظ ما أقول لك؛ يا أحمد مُتلفِّت لا يصل، ومُتسلِّل لا يفلح، ومن لا يعرف من نفسه النقصان فكل وقته نقصان، قال ثمَّ رجع من عنده وبقي سنة يرددها على نفسه، ما خطر له خاطر إلا ذكرها، ثمَّ إنه زاره في السنة الأخرى وأقام عنده ما طاب،،ثمَّ ودَّعه وأراد الخروج من عنده فقال له: يا سيِّدي أوصني، فقال له: يا أحمد ما أقبَّح العلَّة بالأطباء، والجهل من الألبَّاء، والجفا من الأحباء.قال فخرجت من عنده وودعته وبقيت سنة أرددها على نفسي، فلما كان في السنة الثالثة، زرته وأقمتُ عنده الذي قسم الله تعالى، وأردت الخروج من عنده، فقلت له: يا سيِّدي أوصني، فقال لي: يا أحمد لاترجع تزورني، ولا تجيء إليَّ فما بقي لك حاجة إلي ولا إلى غيري ولا إلى أحد من خلق الله تعالي فرجع الى إم عبيدة وشُدت إليه الرحال وتحير فيه أهل الآحوال.
_________________