أطياف إنسانية من ضياء الثورة الحسينية : حكايةُ ثورة الحسين , حكاية ثورة الإنسان بكل ما فيه من سُمُو وإباء , والمؤمن بكل ما تحتوي عليه كلمة الإيمان من صدق وثناء , والمصلح بكل ما تستلزمه أبعاد الحروف من حق ونجدة ومروءة ووفاء . ثورة الحسين ثورة إنسان كمل في إهابه معنى الرشد , وحقيقة الوعي , وروح الإيمان , وسرّ العلو المطلق , فتشكّل في حياته دليلاً أميناً لطلاب الحق , وبعد مماته أمثولة رائعة حازت شرف الأسوة في خطٍ مشروعٍ نقلاً وعقلاً , وبقي مَن واجهه رأساً في حربة الظلم والغدر والإثم , ذات نتاج الفساد والخديعة والشر . سيبقى الحسين الثائر يعلم الناس من خلال ثورته كيف يموتون , لأن الموت فنٌ كالحياة , فمن لم يختر الشهادة النبيلة فسيختاره الموت الوضيع , والشهادة قيمة طغراء في صفحة الولاء بعد الثناء . علّم الحسين مَنْ بعده كيف تُعتنق المبادئ , وكيف تُحرس , وكيف يُقدَّس الإيمان , وكيف يُدافع عنه , وكيف يكون الموت من أجل العقيدة , وكيف يحيا كريماً من تبنّاها عَرِيّة عن الخَطَل , مرعية الصلة بالخالق الأعظم . ثار الحسين ضد الظلم , وأي إنسانية أعظم من أن تثور ضد الجور والحيف , وتأتي بالعدل عنواناً صادقاً لمجتمع الأفراد وأفراد المجتمع ؟ نظم الحسين عاشوراء الزمان وكربلاء المكان في سلك الشهادة , ووضعها قلادة على جِيد التاريخ , تاريخ الإصلاح , فتحوّلت بعده كلُّ ذكرى للزمن إلى عاشوراء , وأضحت كل مناسبة للمكان كربلاء . مات الحسين , ولكنّ موته لم يكن - أبداً- هموداً ولا رقوداً , بل هو خروج الحركة عن قطبها لتحلّ منتشرة في ثوّار كُثر , ففي روح كل مصلح لمعة من روحه , وفي ضمير كل مجاهد قبسات من عطائه . دمُ الحسين رُواء أنعش الأرض , فأنبتت طُهراً وطيباً استمرّا وبقيا , وسيف المناوئين الطغاة أُعيد على رقابهم شؤماً منفِّراً ولعنة قصمت الظهر والذكر , ورضي الله عن عقيلة بني هاشم , زينب الفضل , إذ خاطبت هؤلاء : " كد كيدك , واسعَ سعيك , وناصب عداوتك , فوالله لا تمحو ذكرنا , ولا تميت وحينا , والويل لك يوم ينادي المنادي : ( ألا لعنة الله على الظالمين ) ". الحسين في حياته , وبعد استشهاده , إنسان عظيم تهواه الصدور , وشخصية متفوقة لا تتسع لها السطور , والشخصية الكبيرة من الناس هي السدرة التي ينتهي التاريخ إليها مفاخراً بحق . ولمَ لا يكون الحسين كذلك , وهو من انبثق من عظمة النبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكان السبط الحبيب , ومن عظمة الرجولة علي عليه السلام فكان الابن الأريب , ومن عظمة الفضيلة فاطمة عليها السلام فكان البضعة التي تعني في الصلة والوصال أكثر مما يعنيه القريب . هذه بعضٌ من ملامح لم تكن البلاغة فيها على حساب الإبلاغ , بل لقد أصابها القصور أحايين , فلم تعطِ الحقيقة حقَّها , وأين الكلمة – مهما توشّت – من السرّ ؟ وأين العبارة – مهما زُخرفت – من القبس العلوي الإلهي ؟ وهذه لمحات من حكاية الثائر الأَشَمّ , وما اللمحات من تلك الحكاية إلا كقطرة ندى من وابل طيب , به السماء تفخر والأرض تزهر . فاصل مذكِّر من هوية الإمام الثائر: مَنْ هو الحسين ؟ ومَنْ – هنا – لا تعني السؤال بقدر ما تعني تذكيري ومن معي من بني الإنسان بالوفاء , وليس المقام هنا سرد حياة مفصلة , أو عرض ترجمة في سياق تعريفي مطوّل , وإنما أردنا إعادة عرض بعض اللقطات النورانية عن هذا العظيم الأنور , وإذ تتبدى فإنسانية هي بالتمام والكمال , وإذ تسفر فعظيمة هي بكل المعايير الناطقة بلغة العقل الصائب , والصواب الحكيم العاقل , وإذ تبرز فالملتقى عندها للاتساء والاقتداء . ولنبدأ المشوار مع لقطة يخرجها جدُّ الحسين – عليه الصلاة والسلام – بألوان الحب وأضواء العطاء : " حسين مني , وأنا من حسين . أحب الله من أحب حسيناً " . ويقول الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم مرة لابنته السيدة البتول عليها السلام , وقد سمع حسيناً يبكي : " ألم تعلمي أنّ بكاءه يؤذيني " . وتتابع اللقطة اللؤلؤية العظمى ليقول الجد صلى الله عليه وآله وسلم عن الحسين عليه السلام : " من أحبّ الحسن والحسين فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني " . ويقول صلى الله عليه وآله وسلم : " الحسن والحسين ريحانتاي من الدنيا ". ويقول صلى الله عليه وسلم : " الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة " . ويقول صلى الله عليه وآله وسلم لعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام : " أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم " . وتُقفل اللقطة هذه على توريثٍ عطري عَبِق تأخذ عنها لقطات أُخر, أخرجها وارثون , ورثوا غير الدرهم والدينار عن الأسياد , وإنما ميراثهم عنهم العلم الصحيح , وهو الحظ الوافر , بل الأوفر . ومن هذه اللقطات ما كان ابن عمر رضي الله عنهما , يوم كان جالساً في ظل الكعبة , فرأى الحسين عليه السلام مقبلاً فقال : " هذا أحب أهل الأرض اليوم إلى أهل السماء " . وما كان من تائب شبّ عن طوق طغمة آل أبي سفيان , إذ قال : " هذه الخلافة حبل الله , وإن جدي معاوية نازع الأمر أهله , ومن هو أحق بها منه , علياً بن أبي طالب عليه السلام , وركب بكم ما تعلمون , حتى أتته منيّته , فصار في قبره رهيناً بذنوبه , ثم قلّد أبي الأمر , وكان غير أهل له , ونازع ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , فقصف عمره وانبتر عقبه , وصار في قبره رهيناً بذنوبه " . ثورة الحسين وفاء للإنسانية والإنسان : للإنسان هويةٌ ثابتةُ السمات , واضحة الصفات , جلية الإبعاد , لا تخفى على ذي لبٍّ منها خافية , وهي – أي الهوية – كالسماء الصافية في يوم صاف مزهر . فإذا ران عليها ما يمحو عنها هذه السمات , وتلك الصفات , وهاتيك الأبعاد , حسبتها – والحسبان نظر دقيق – شرسة مشينة , ليس لها عند البهائم من نظير, وخلتها انحطاطاً نوعياً يتعالى عليها بجدارة التدني الوظيفي للحيوان , وصدق الله إذ يقول : ( إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل ) الفرقان /44. وسمات الإنسان وصفاته وأبعاده , التي تكوِّن هويته الثابتة هي : العدل والفضيلة والعلم والمسؤولية. ولسنا هنا في صدد تفصيل البحث فيها والحديث عنها , ولكن حسبنا أن نعلن , بعد قراءة مستفيضة لثورة الحسين , أنّ الحسين عليه السلام كان مَنْ جمع في إهابه الطاهر وركابه الماهر العدل على أشده , والفضيلة على أحسنها , والعلم على أوثقه , والمسؤولية على أتمها , فغدا بهذا الطرف الخيِّر الإنساني في صراعه مع الآخرين , الذين أكّدوا بأفعالهم وبأقوالهم بُعداً عدائياً عن العدل , ورفضاً شهوانياً للفضيلة , ونَفرة ملؤها الغرور الحاقد من العلم , وانعتاقاً من المسؤولية الإنسانية , ليُستبدل بها جهر بالفساد وإعلان بالسوء والشر. وها نحن أولاء نذكر بعض ما جاء على لسان سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام, يحكي سبب ثورته ودافع قيامه : " هيهات منا الذلة ، يأبى الله ورسوله والمؤمنون ، وحُجُور طابت ، وبطون طهُرت ، وأنوفٌ حميَّة ، ونفوس أبية . ألا ترون أن الحق لا يُعمل به ، والباطل لا يُتناهى عنه ؟! فلا أرى الموت إلا سعادةً ، والحياة مع الظالمين إلا بَرَماً " الحق دافعه ، والقضاء على الظالم وراء خروجه ، ومحو الباطل واستئصاله همه الذي سكن صدره إذ ثار . ويتابع الإمام حكاية سرِّ الثورة فيقول : " إنا أهل بيت النبوة ، ومعدِن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، بنا فتح الله ، وبنا ختم . ويزيد رجلٌ فاسق ، شارب الخمر ، وقاتل النفس المحرَّمة ، ومعلنٌ بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله " . نعم . ومثلُ الحسين عليه السلام في لُحمة الحق ومظهر دين الله ، لا يبايع يزيد في لحمة الشيطان ، ومظهر الباطل ، والإمام المؤهل للمبايعة هو مَن وصفه الإمام الحسين عليه السلام بقوله : " لَعَمري . ما الإمام إلا العامل بالكتاب ، والآخذُ بالقسطِ ، والدائنُ بالحق ، والحابسُ نفسه على ذات الله " . ولعمري أنا يا إمام ، إنَّ ما ذكرتَ من صفات الإمام لا يعدوك إلى سواك ، ولا يتجاوزك إلى غيرك في عصرك ، فأنت العامل بالحق ، وأنت الآخذ بالقسط ، وأنت الدائن بالحق ، وأنت الحابس نفسَك على ذات الله ، أوَ لستَ القائل : " إني لم أخرج بَطِراً ولا أشِراً ، وإنما خرجت أطلب الإصلاح في أمتي جدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم " . رعيتَ يا حسين الأمة فأصلحتَ وقوَّمتَ مسارها ، بعد أن كاد يَعْوَجُّ – على أيدي هواة الاعوجاج – عن الجادة الصائبة ، فجزاك الله خيرَ ما يجزي مصلحاً عن أمته ، يا قائد الإصلاح في سياق الإخلاص . وهاكم يا ثوار العالم رسالة الاستنكار ، يوجهها بقوة مرسلها ، الوثابة روحه ، النقيةُ الساميةُ نفسه ن إلى مَن حاد عن الحقيقة في توجهاته ، فباء بالفشل الذريع في نظر من أوتي عقله حكمة ، وقلبه فطنة ، وإنسانيته صواباً ، يقول في رسالته إلى معاوية : " وإني لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأمة من ولايتك عليها ، ولا أعظمَ نظراً لنفسي ولديني ولأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أفضلَ من أن أجاهركَ . لقد قلتَ فيما قلتَ : إني إن أنكرتُك تنكرني ، وإن أكدْكَ تكدني . فكدني ما بدا لك ، فإني أرجو ألاَّ يضرني كيدك ، وألا يكون على أحد أضرَّ منه على نفسك ، لأنك قد ركبت جهلَك ، وتحرَّضت على نقض عهدك ، ولعمري ما وفين بشرط ، ولقد نقضت عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والإيمان والعهود والمواثيق ، فقتلتهم من غير أن يكونوا وقاتلوا وقتلوا ، ولم تفعل ذلك بهم إلا لذكرهم فضلَنا وتعظيمِهم حقنا . فأبشر يا معاوية بالقصاص ، واستيقن بالحساب ، واعلم أن لله تعالى كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، وليس بناسٍ لأخذك بالظِّنة ، وقتلك أولياءَه على التُّهم ، ونفيِك إياهم من دورهم إلى دار الغربة ، وأخذك للناس ببيعة ابنك الغلام الحدث ، يشرب الشراب ، ويلعب بالكلاب . ما أراك إلا قد خسرتَ نفسك ، وتَبَّرت دينك ، وغششت رعيتَك ، وسمعت مقالة السفيه الجاهل ، وأخفتَ الوَرع التقي " . وأخيراً : سيدي أبا عبد الله : في ذكرى الاستشهاد الشريف النبيل ، أرفعُ لمقامِكَ تحية الحب والوفاء والولاء والثناء ، تحية الأمل في أن أُشملَ بشفاعتك يوم اللقاء الأكبر ، تحية الرجاء في أن أُسقى من كف جدِّك صلى الله عليه وآله وسلم على كفك شَربةً لا ظمأ بعدها أبداً ، فأنت مَنْ قلت :