الإخلاص هو حقيقة الدِّين ومفتاح دعوة المرسلين. قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) (النساء/ 125).
كان النبي يستفتح الصلاة قبل قراءة الفاتحة بأدعية مختلفة مثل: "اللّهمّ باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب".
المقصود هنا أن حياتي كلّها وإليك يا رب.. بك يا رب حياتي ورزقي وقوتي ونعمي وتوفيقي وسعادتي.. لذلك إليك يا رب توجهي وعملي ونيتي وقلبي وحياتي رجوعي وموتي. أي طالما الحياة بك فلابدّ أن تكون إليك.
ثلاث كلمات فيها سر السعادة "أنا بك وإليك" مخلص في حياتي كلّها لك يا رب.
أخلِص في كل كلمة، في كل حركة.. عِشْ لله.. انوِ كل شيء في حياتك لله.. حَوِّل كل أهدافك في الحياة لإرضائه فقط، بالنية.
لن أترك الدنيا.. لا.. سأمتلكها، لكن سأجعلها كلّها لك ولإرضائك: المال، الشهرة، المنصب.. كلُّ ما أملك سيكون لك يا رب. سأخلص لك وأعيش لك.
- سأعمل وأنجح بنية نصرة دينك وإصلاح أرضك.
- سأتزوج لأسعد، لكن الأهم لأبني أسرة لحمدك.
- سأدرس وأتعلّم وأنجح ليعرف الناس أنّ المسلم ناجح.
- سأطلب الرزق والمال لأنفق وأساعد الناس وأحقق عزاً كبيراً للإسلام.
- أنا منذ اليوم لله وحده.
- أنا منذ اليوم مخلص له وأعيش له.
كيف أخلص؟
الإخلاص قرار ونية. وجِّه البوصلة إليه. إنّه قرار بداخل عقلك، لا أحد يراه. أنت في كل الأحوال ستقوم بالأشياء نفسها في الوقت نفسه، لكن الفرق كبير. هي حياتك نفسها، لكن تخيل كمية الراحة والثواب.
أولادك لماذا؟ فلوسك لماذا؟ فعمل خير، لمساعدة الفقراء والمحتاجين؟ الدرس والإجتهاد لماذا؟ التفوق لماذا؟ السيارة لماذا؟
تخيل معي كمية الثواب. والاستقرار النفسي عندما تعمل كل حياتك لله وحده.
تخيل كمَّ السعادة. الإخلاص عبادة السعداء. ابن القيم – رحمه الله – يقول: "العمل بغير إخلاص ولا إقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملاً ويثقله ولا ينفعه".
- وما معنى الإخلاص؟
أن تقصد بقولك وعملك وحياتك كلّها وجه الله وابتغاء مرضاته.. وقيل: هو إفراد الحق سبحانه بالقصد في كل التصرفات، في الحركة والسكون، في السر والعلانية.
وقيل: الإخلاص هو نسيان رؤية الخلق لك بدوام النظر إلى الخالق.
وقيل: الإخلاص ألا تطلب على عملك شاهداً إلا الله.
إذن، المعنى هو عمل من أعمال القلوب، بل هو في مقدمة أعمال القلوب، لأن قبول الأعمال لا يتم إلا به سبحانه وتعالى.
المعنى.. أن يكون دافعك لأي عمل في الوجود هو مرضاة الله عزّ وجلّ، في العبادات، من صلاة وصيام وحج وزكاة، وفي الحياة، من زواج وعمل ومال وأولاد وممتلكات.
الإخلاص هو إفراد الله بالتوجه والقصد.
السفينة في بداية رحلتها توجِّه دفتها، ثمّ تتابع التوجه بالبوصلة. كذلك الإنسان، أوّل رحلته في الحياة هو التوجه بالإخلاص..
فكِّر لنصف دقيقة، وخذ القرار بأنّك تنوي كلُّ ما تملك من الآن لله. تتوجّه الآن لله (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام/ 79).
اسأل نفسك: هل أنت تعيش لله؟ هل أنت مخلص لله؟ والله ستعيش سعيداً لو كانت حياتك لله وحده، لا ينازعك أي شيء: (وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ...) (البينة/ 5).
(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ) (الزّمر/ 11).
(إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ...) (الزّمر/ 2-3).
- وللإخلاص فوائد..
الإخلاص يحفظك وينجيك ويرفعك عند الله بقوة.
الأنبياء ذكرنا الله عزّ وجلّ بإخلاصهم فقال: (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) (ص/ 46).
وأخبر عن يوسف أنّه نجا من الفاحشة بإخلاصه لله. (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (يوسف/ 24).
وأخبر أن موسى بلغ منزلته العالية بإخلاصه: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا) (مريم/ 51).
من سمات المخلصين لله عزّ وجلّ أنّ الشيطان لا يقدر على المخلصين: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (ص/ 82-83).
والإخلاص سر بين الله وبين العبد، لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده.
اجعل شعار حياتك هذه الآية: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ) (الأنعام/ 162-163)، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم : "أنا بك وإليك" ضعه في بيتك، لتتذكر دائماً أن توجِّه دفة قلبك، وبالتالي حياتك، لله.
وهناك معنى جميل يضمن لك السعادة لو أخلصت. تفكر في هذه الآية (وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى) (الليل/ 17-21).
وهناك معنى آخر جميل جدّاً يحسسك بأنّ الإخلاص سعادة وراحة. الزوجة والمرأة أجمل حاجة يمكن أن تعتز بها.. إنّها مخلصة لزوجها والرجل أنّه مخلص لشغله. الزوجة تسعد جدّاً لما يشهد لها زوجها بأنّها سيدة مخلصة، أو تشهد الزوجة لزوجها بأنّه رجل مخلص. فما بالك عندما تكون خلصاً لله؟
وهناك معنى ثالث، أنك لو أخلصت تفرح به ويسعدك. فالكون كلّه مخلص لله. إيّاك أن تتحرّك عكس اتّجاه الكون. تخيل سيارة عكس الاتّجاه. الكون كلّه مخلص لله. إيّاك أن تمشي عكسه.
الكون كلّه عابد لله، يسجد له ويسبح بحمده: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) (الحج/ 18).
الكون كلّه عبارة عن مهرجان ضخم كبير هائل، من طيور وأشجار وأسماك ونجوم ومجرات، يسبح لله: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (الإسراء/ 44).
فلماذا لا تشارك في هذه الكوكبة الكونية؟ لماذا تنعزل عن الكون وتكون وحدك في غربة؟ الغربة وحشة. شارك الكون في مهرجان التسبيح والعبادة، ولا تسر عكس اتّجاه الكون فتشقى وتصبح تعيساً. لا تذهب للفروع وتترك الأصل. لا تصادم الكون لأنّك ستتعب وتشقى. هذه بداية التعاسة، والإنسان الذي يسير في اتّجاه الكون هو أسعد من الذي يسير عكس الاتّجاه.
دعاء النبي عند الصباح: أصبحنا وأصبح الملك لله.. سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه.
المالك هو الله، ونحن نملك شيئاً. فأخلص حياتك لمن يملك كل شيء.
سئل أعرابي يملك قطيعاً من الإبل: لمن هذه الإبل؟ قال: لله في يدي، وسئل اب: كم عندك من الأولاد، فقال: لله 4 أولاد. نحن في الحقيقة لا نملك شيئاً. كل وصف الملكية هو: لا مالك إلا الله. بيتك وسيارتك وأولادك وأموالك لله في يدك. (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ...) (يوسف/ 101). يجب أن تشعر وأنت تملك شيئاً من الدنيا أنّ في يديك ورقة ملكية البيت، وهذا البيت ليس ملكك، بل الملك الله، فإياك أن تعصاه في ملكه..
حكي عن أحد التابعين أنّه قال: كان ابتداء توبتي أن رأيت غلاماً في سنة قحط يمرح زهواً والناس تعلوهم كآبة. فقلت له: يا هذا، ما هذا المرح؟ ألا تستحي؟ أما ترى ما فيه الناس من المحن؟ فقال: لا يحق لي أن أحزن ولسدي قرية مملوكة أدخر فيها كلُّ ما أحتاج. فقلت في نفسي: إنّ هذا العبد لمخلوق ولا يخاف لأنّ لسيده قرية مملوكة، فكيف يصح أن أخاف وأنا سيدي مالك الملك، فانتبهت وتبت.
أنت لا تملك لنفسك شيئاً. حتى النبي صلى الله عليه وسلم : قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً "قُل اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتيِ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ".
ولتخيل الإخلاص المطلوب، إليك هناك مثل قرآني جميلك (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ) (النحل/ 66). وخلوص اللبن ألا يكون فيه شائبة من دم أو فرث. تخيل لبناً يحلب تجد به أثر شائبة فرث أو دم. كذلك العمل. أخلص كخلوص اللبن النقي الخالص.
أبدأ من اليوم وقل: كلُّ ما أملك خالص لك يا رب.
وأكثر من قولك: "اللّهمّ اجعل صَلاتي ونُسُكي ومحْيَايَ ومماتي لك يا ربّ العالمين".